ولعل استخدام كلمة الغموض والإصرار عليها إلى جانب المرادفات الأخرى لها مثل التعقيد والتعمية والغرابة والإشارة والتلويح والرمز والتعريض، فضلاً عن المجاز والكناية والاستعارة والتشبيه يعود لما لهذا الموضوع من قدرة على إضفاء الخصوصية الفنية على العمل الابداعي، ذلك العمل الذي يثير القارئ عقلاً وحساً، مما يجعل النص في دائرة التأويل والتفسير وتعدد الاحتمالات، وهذا ما يجعل النص الابداعي نصاً إبداعياً. فالغموض هو الذي يمنح النص خصوصيته الجمالية والإبداعية، يقول الجرجاني:"ثم إن ما طريقه التأول يتفاوت تفاوتاً شديداً. فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه ويعطي المقادة طوعاً، حتى أنه يكاد يداخل الضرب الأول الذي ليس من التأول في شيء، وهو ما ذكرته لك. ومنه ما يحتاج في استخراجه إلى فضل رؤية ولطف وفكرة"(٣٢) .
وبهذا يكون الجرجاني قد استطاع إبراز أهمية الغموض في بنية النص الابداعي، وأن ضروب الغموض تشتمل على الصياغة والتركيب، فضلاً عن ضروب البيان والمعاني والبديع، إضافة إلى ذلك فقد ربط عبد القاهر الجرجاني الغموض باللذة العقلية والحسية عند القارئ. ولذلك فالغموض بأشكاله المختلفة من تعمية وتعقيد وغرابة يدفع القارئ إلى دائرة التأويل وإدراك الفكرة التي تضمنها النص الابداعي، وهذا ما يثير لذة نفسية وعقلية عند القارئ.
فالجرجاني قد أدرك أهمية الغموض بأنماطه المختلفة في تشكيل بنية النص الابداعي، ومنحه الخصوصية الفنية والجمالية، حيث النص الابداعي البعيد عن الغموض الفني نصاً سطحياً لا يرقى إلى العمل الابداعي الحقيقي الذي يجعل القارئ جزءاً من العملية الإبداعية، ومشاركاً فيها من خلال وقوعه في دائرة التأويل والتفسير، وتعدد المعاني والاحتمالات.