وفي العصر العباسي الثاني (٢٣٢ – ٣٣٤هـ) والثالث (٣٣٤ – ٤٤٧هـ) شاعت التوقيعات على أقلام عدد من الكتاب والوزراء المشهورين من ذلك ما ذكره الثعالبي ( [١٢٤] ) أن الصاحب بن عباد (٣٢٦ – ٣٨٥هـ) رفع إليه بعضهم رقعة يذكر أن بعض أعدائه يدخل داره فيسترق السمع، فوقع فيها:» دارنا هذه خان، يدخلها مَنْ وفى ومن خان «. وكتب إليه إنسان رقعة أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه، فوقع فيها:» هذه بضاعتنا ردت إلينا ( [١٢٥] ) «. ووقع في رقعة استحسنها {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ}( [١٢٦] ) .
شخصية كاتب التوقيعات:
في هذه البيئة الفنية الخصبة ازدهرت التوقيعات ( [١٢٧] ) ، وأنشئ لها ديوان خاص سمي بديوان التوقيعات، وأسند العملُ فيه إلى بلغاء الأدباء والكتاب ممن استطارت شهرتهم في الآفاق، وعرفوا ببلاغة القول، وشدة العارضة، وحسن التأتي للأمور، والمعرفة بمقاصد الأحكام وتوجيه القضايا. يقول ابن خلدون (٧٣٢ – ٨٠٨هـ) في ذلك:
» واعلم أن صاحب هذه الخطة لابد أن يتخير من أرفع طبقات الناس، وأهل المروءة والحشمة منهم، وزيادة العلم وعارضة البلاغة، فإنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرضُ في مجالس الملوك، ومقاصد أحكامهم، مع ما تدعو إليه عِشْرة الملوك من القيام على الآداب، والتخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل، وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها « ( [١٢٨] ) .
وكان للتوقيعات البليغة الموجزة رواج عند ناشئة الكتاب وطلاب الأدب، فأقبلوا عليها ينقلونها ويتبادلونها ويحفظونها، وينسجون على منوالها.
يقول ابن خلدون:
» كان جعفر بن يحيى البرمكي يوقع القصص بين يدي الرشيد، ويرمي بالقصة إلى صاحبها، فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها؛ للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها؛ حتى قيل: إنها كانت تباع كُلُّ قصة منها بدينار « ( [١٢٩] )