وشرور الخلاف لا تنقضي، وشرُّها إذا استحال إلى تعصب للمذاهب والآراء بالباطل، واتباعٍ للظن وما تهوى الأنفس. وما يتبع ذلك من تباغض وتدابر، بل وتلاعن. وإذا أنعمت النظر وجدت أن أكثر هذه المسائل المتنازع فيها هي من الفروع الخفية التي يسوغ فيها الخلاف، وأغلب هؤلاء المتعصبين إنما قامت عصبيتهم على الانتصار للنفس والهوى لا الانتصار للحق، وهذا أمر خفي دقيق يتسلل إلى القلوب والنفوس، لذلك نبّه عليه ابن رجب فقال: ((ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً، وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيراً من البغض إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعاً، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه. وهذا الظن قد يخطئ ويصيب. وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرّد الهوى والألفة، أو العبادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله. فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه، ويتحرز في هذا غاية التحرز. وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرّم. وههنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً، ويكون مجتهداً فيه مأجوراً على اجتهاده فيه. موضوعاً عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله، ولا انتصر له، ولا والى من يوافقه، ولا عادى من يخالفه، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه. وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق، وإن أخطأ في اجتهاده. وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه أنه الحق، إرادة