ومن ذلك ما جاء في رسالة ابن المقفع إلى أبي جعفر، فمما جاء فيها: ومما ينظر أمير المؤمنين فيه، اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال، في ستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة، فيستحل في ناحية منها ما يحرم في ناحية أخرى، غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين في دمائهم وحرمهم، حكم به قضاة جائز أمرهم وحكمهم....
فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وقضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتابا جامعا عزما لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا ورجونا أن يكون في اجتماع السير اجتماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام إلى آخر، آخر الدهر، إن شاء الله (٧٦) .
فابن المقفع أشار على أبي جعفر ونصحه أن يوحد عمل القضاة على رأي واحد يتنباه، وقد اتجة أبو جعفر كما اتجه قبله عمر بن عبد العزيز إلى المدينة وعلمها، فهي موطن السنه ومستقر كثير من الصحابة والتابعين، وكان أهلها لا يزالون يتناقلون سنة النبي وأقضيته، فعلمها لا يزال علما نبويا يتناقله الثقاة العدول، فيسهل جمعه، وهذا مالا يتوافر في غيرها شرفها الله.