ولعل واقع الحياة في الساحات: الفكرية، والسياسية، والفقهية، في الدولة هو الذي نشأ هذه الفكرة لدى أبي جعفر: أما الساحة الفكرية فكانت تشهد صراعات شديدة بين سائر المدارس الفكرية العقدية، معتزلة وشيعة وجهميه ومعطلة ومشبهة ... وأما الساحة الفقهية فكانت تشهد اختلافات فقهية متعددة لا تكاد مسألة فقهية تخلو في جانب من جوانبها منها، وهو ما سلف ذكره في رسالة ابن المقفع إلى ابي جعفر، ولعل الخطب قد اشتد في نظر أبي جعفر لما اشتهر أمر مخالفة أبي حنيفة لقضاة الكوفة، وانتقاده لهم وتصريحه بخطئهم إذا خالفوا رأيه مما أضاع هيبة القضاء وول د الجرأة على القضاة. ناهيك عن الفرقة التي انتشرت بين أصحاب الآراء العقدية المتباينة وأتباع المدارس الفكرية المتصارعة، والوحشة التي ظهرت وتزايدت بين أصحاب الآراء الفقهية المختلفة.
وأما الساحة السياسية فكانت تشهد جماعات معادية للسلطة العباسية، منها الفكري ومنها المسلح، فالخوارج كانوا لا يفشلون في ثورة حتى يستأنفوا التخطيط والإعداد لثورة أخرى. والمعتزلة أصحاب فكر عقدي ينزح فكرا سياسيا ثوريا انقلابيا، بل إن فكرهم أسهم كثيرا في نظري في خدمة الدعوة العباسية ضد الأمويين. والطالبيون قد أرق خروجهم المسلح الأمويين ثم العباسيين وبعدم موافقة مالك على طلب أبي جعفر توقف الأمر عند حد الاتفاق على تأليف كتاب يحفظ السنة ويجمع علم الحجاز، فألف مالك كتابه "الموطأ".
ثامنا:- أثر أصل المصلحة في منهجه السياسي:
المصلحة في اصطلاح الاصولين هي: ما اتفق مع مقاصد الشريعة من نفع أو دفع ضرر (٨٢) .
فالمصلحة التي بنى العلماء عليها هي المصلحة المعتبرة، وليست الملغاة ولا المرسلة عن الدليل الشرعي الذي يشهد لها، وقد أكثر الإمام مالك من الاعتماد على المصلحة المعتبرة ووضع أصحابه الضوابط لها.