كذلك، تذكر الروايات التاريخية أن أبا العباس استدعى ربيعة لي سلمه ولاية القضاء فأبى، فلما أراد ربيعة السفر قال لمالك:إن سمعت أني حدثتهم شيئا أو أفتيتهم فلا تدعني شيئا، فوصله أبو العباس بخمسة آلاف درهم فرفض أن يقبلها (٩٤) .
هذه الرواية فيها دلالة على أن ربيعة كان يرفض الولاية، ويمكن أن يحمل هذا السلوك على الزهد في الولاية وعلى الخوف من تولي القضاء، ويمكن أن يحمل على أنه فرار من تولي الوظائف في ظل خليفة اغتصب الخلافة وعض عليها، ولم يجعلها شورية تختار الأمة لها من ترتضيه. كان مالك قريبا من شيخه ربيعة، عالما بأحواله، مرافقا له في مقابلاته للخلفاء (٩٥) ، ولكنه كان مستقلا عنه في فكره السياسي، لذلك لم نجده في مسألة تولي الوظائف المهمة في الدولة- متوافقا معه، فلم يرفض مالك -كما سياتي- حسن العلاقة بالسلطة الحاكمة، وتولي الوظائف فيها على الرغم من تيقنه من ظلم تلك السلطة فقد غصبت الأمة منصب الخليفة وجعلته ملكا عائليا وراثيا.
والمسألة اجتهادية، فلعل مالكا كان يرى المصلحة أرجح في أن يتولى الوظائف وإن كان الخليفة ظالما.
ويمكن القول إن المنهج السياسي عند مالك كان يتسم بطابع الاستقلالية، ذلك أن مالكا إمام بلغ درجة الاجتهاد المطلق، وأن منهجه في علاقته بالسلطة الحاكمة جزء من منهجه الكلي في استنباط الأحكام، فجاء منهجه السياسي ثمرة نظر وتفقه سياسيين وليسا ثمرة تأثر أو تقليد.
هذا، ولا يلزم من الاستقلالية في الفكر عدم التوافق في بعض الجوانب، وبناء على عدم اللزوم هذا، نفسر ما وجد من توافق في بعض جوانب الاجتهاد السياسي عند مالك مع الجوانب المناظرة من الفكر السياسي عند شيوخه.
الخاتمة
خلصت في هذا البحث إلى نتائج من أهمها:-
= ... ما انفك مالك يعتمد المستندات الشرعية والضوابط الفقهية في عمله السياسي، حتى شكل ذلك ثابتا من ثوابت المنهج السياسي عنده.