للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نشأ علم النّحو أوّل أمره صغيراً، شأن كلّ علمٍ وكلّ فنٍّ، وكانت نشأته في الصّدر الأول للإسلام، فنشأ نشأةً عربيةً محضةً على مقتضى الفطرة، ثم تدرج في وضعه، وتكوينه، ونموّه، ونضجه، واكتماله، شيئاً فشيئاً تمشياً مع سُنّة التّرقّي حتى كَمُلت أبوابه، غير مقتبس من أيّ لغةٍ، لافي نشأته ولافي تطوره وتدرجه، حتى وصل إلى طور الترجيح والبسط في التصنيف.

وكان من أسباب نشأة النّحو فُشُوّ الفساد في اللغة العربية، وأوّل مااختلّ من كلام العرب فأحوج إلى التعلم الإعرابُ؛ لأنّ اللحنّ ظهر في كلام الموالي والمتعرِّبين من عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمّا سطع نور الإسلام، وأظهر الله دينه على سائر الأديان، وانتشرت الفتوحات الإسلاميّة، ودخل النّاس في دين الله أفواجا، وأقبلوا إليه أرسالا، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، واللّغات المختلفة، واختلط العرب بغيرهم اختلاطاً مستمراً في البيوت والأسواق، والمناسك والحج، وتصاهروا واندمجوا في بعضهم بعضاً، ونتيجةً لهذا الامتزاج والاختلاط تسرب اللحن والضعف إلى سليقة العربيّ، الذي كان ينطق على سجيته في صدر إسلامه، وماضي جاهليته، فاستبان منه الإعراب الذي هو حلية كلامه، والموضّح لمعانيه الدقيقة التي تتميّز بها اللُّغة العربية.

وانتشر اللحن فشمل الخاصة، حتى صاروا يَعُدّون من لايلحن.

لذلك خشي أهل العلم وعظم الإشفاق منهم من فُشُوّ اللّحن وغلبته على اللّغة العربيّة، فخافوا أن يُؤدي ذلك إلى فساد الملكة، وبطول العهد ينغلق فهم القرآن والحديث؛ فدعاهم الحذرُ من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم أن يستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردةً شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويُلحقون الأشباه بالأشباه.

<<  <  ج: ص:  >  >>