فلما بلغ الغلام مبلغ القوة والسعي ليحمل عن أبيه بعض متاعب الحياة ويعينه على أمور دينه ودنياه، ويحمل عنه العلم والحكمة فإذا بالأب يقول:(يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ((الصافات ١٠٢) .
أدرك الخليل (أنها إشارة من ربّه تبارك وتعالى بالتضحية فلم يتردد أو يراجع نفسه أو يطلب التحقيق، فكيف أذبح إبني الوحيد بمجرد رؤيا رأيتها علها تكون أضغاث أحلام؟، فلم يخطر له إلا خاطر التسليم والتنفيذ حتى وإن لم تكن وحيا صريحا، إلا أنها إشارة من رب السموات والأرض!.
تكفي هذه الإشارة لأمثال الخليل (لينفذ أمر ربّه في إيمان قوي راسخ، دون أن يسأل ربّه شأن المتعللين: لماذا، وكيف، ومتى، وأين أذبح؟!، ليشعر بذلك الأجيال القادمة مِن بعده بأن أوامر الله تنفذ حالا، فهي لا تقبل التراجعات النفسية ووساوسها، ولا تحتمل التفكير والتلكؤ والتأني في تنفيذها، فتلبى كما لبى الخليل (أمر ربّه في غير إزعاج ولا تضجر وتذمر، وتنفذ حكمه في كل أمر ونهي وفي كل محبوب ومكروه طوعا وإنابة واستسلاماً بكل رضى وقبول وهدوء وطمأنينة (١) .
وفي مقابل ذلك- كما يقول سيد قطبب-: فهو (لا يندفع في عجلة وتهور ليخلص نفسه وينتهي منه فورا حتى يريح أعصابه من ثقله، ولكن خاطب ابنه على سبيل الترحم والعطف والشفقة: (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ((الصافات ١٠٢) . ذبحا إراديا يتولى تنفيذ هذه المهمة الشاقة- على البشر- بيده دون أن يرسل وحيده في معركة أو يكلفه بأمر تنتهي به حياته ولكن: (أني أذبحك (.
(١) جامع البيان للطبري ج٢٣/٧٦- ٨١، تفسير الكشاف للزمخشري ج٤/٥٢، أحكام القرآن للقرطبي ج١٥/٩٧- ١٠٧، تفسير ابن كثير ج٤/١٥، ١٦، فتح القدير للشوكاني ج٤/٤٠٣، روح المعاني للألوسي ج٨/١٢٧- ١٣٢، في ظلال القرآن لسيد قطب ج٥/٢٩٩٤.