وللتدليل على ذلك من حياة أحمد جمال، فلقد قيض له أن يمنى بداء الربو مع صداع شديد في العقد الثاني من حياته، وأخذ يلتمس الدواء ليبلّ من مرضه، فعرض نفسه على الأطباء، فنصحه أحدهم بأن يتجرع شيئا من الخمر، ليبرأ من دائه، فاندهش أحمد جمال لذلك، وتحركت شاعريته بقصيدة حول مرضه، منها قوله في الرد على وصفة الطبيب
المحرّمة، حيث قال:
زعم الطبيب بأن بالصهباء
تشتدّ أعصابي ويحسم دائي
فرفضتها وأنا المريض ولم أكن
لأريد بالخمر الحلال دوائي
آمنت أن الله لم يجعل لنا
فيما نهانا عنه أيّ شفاء
آمنت أن الله سوف يقيمني
من علّتي فبه عقدت رجائي
وبحرمة الله التي عظّمتها
تشتدّ أعصابي ويبرأ دائى (١)
وعزوفاً عن اليسير، وحرصاً على التحدي والإصرار، يدلف أحمد جمال إلى عالم الأدب عبر بوابة الشعر، متنكباً عن بوابة النثر التي عُرف بها فيما بعد، ويذكر الاستاذ محمد على الجفرى على لسان الاستاذ احمد جمال، في ترجمته لحياته في كتابة (الاديب المكى) : إن ديوان الشاعر العراقي معروف الرصافي هو أول كتاب قرأه وحفظ منه القصيدة التالية:
يا قوم لا تتكلّموا
إنّ الكلام محرّم
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلا النوّم
ودعوا التفهُّم جانباً
فالخير أن لا تفهموا
وتثثبّتوا في جهلكم
فالشرُّ أن تتعلموا
أما السياسة فاتركوا
أبدا وإلاّ تندموا
لا يستحقّ كرامة
إلاّ الأصم الأبكم
وإذا ظُلمتم فأضحكوا
طربا ولا تتظلّموا (٢)
ولعلّ ديوان الرصافي كان من المحفّزات التي قادته إلى أن يستهلّ حياته بكتابة الشعر، كما بدأها بقراءة الشعر.
كما كان للمناخ الذي عاشه أحمد جمال دورٌ وتأثيرٌ في اتجاه بوصلته الأدبية صوب الشعر، فلقد سأل خدنه وصديقه على امتداد مراحل العمر، عبد العزيز الرفاعي (رحمه الله) حينما جمعتهما مقاعد الدراسة، عن قراءته (فقال: عبث الوليد قال أحمد جمال: وما عبث الوليد؟