أما اللغة في الشعر فلها شأن آخر، إن لها شخصية كاملة تتأثر وتؤثر وهي تنقل الأثر من المبدع إلى المتلقي نقلا أميناً. وليست المسألة مجرد نقل أمين فحسب، ولكنه النقل الأمين عن المبدع عندما يفكر أولاً وقبل كل شيء باعتباره فرداَ. لذلك كانت لغة الشعر ممتلئة بالمحتوى الذي تنقله نقلا أميناً. وهي بعد لغة فردية في مقابل اللغة العامة التي يستخدمها العلم. وهذه الفردية هي السبب في أن ألفاظ الشعر أكثر حيوية من التحديدات التي يضمها المعجم. والألفاظ الشعرية تعين على بعث الجو بأصواتها. فالعلاقة بين الأصوات في الشعر - كالموسيقا تماما - يمكن أن تثير متعة تذوق الانسجام الحي، سواء بالأجزاء المكررة أو المنوعة أو المتناسبة.
والكلمة الشعرية لذلك يجب أن تكون أحسن كلمة تتوافر فيها عناصر ثلاثة: المحتوى العقلي، والإيحاء عن طريق المخيلة، والصوت الخالص، ويجب أن يكون اتصالها بالكلمات الأخرى اتصالا إيقاعيا يؤدي هذا التلوين الإيقاعي إلى الغاية المطلوبة) (٢١) .
وإدراك أحمد جمال للتفريق بين وظيفة الشعر ووظيفة النثر لكي يحدد المنهج الذي يسلكه، لم يكن عسيراً، لتغلغل التفريق بين ماهية الشعر، وما هية النثر، في عمق تربتنا الثقافية، فلقد ناقش حازم القرطاجني في (المنهاج) الفوارق بين الماهيتين، متكئاً على آراء الفارابى وابن سينا، مبيناً ورود الكذب في الشعر، والذي يفسره بالخيال في قوله:
(فلذلك كان الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة، وليس يعدَّ بعد شعراً من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيّل)(٢٢) .