ويستفيض في إيضاح هذة النقطة الدكتور محمد جابر عصفور بقوله:(تخاطب الفلسفة - شأنها في ذلك شأن العلم - الجانب العقلي الخالص من المتلقي بلغتها المجردة، وبقضاياها أو بحججها الصحيحة التي تعتمد - أكثر ما تعتمد - على البرهان. أما الشعر فإنه يخاطب بمخيلاته - وقد تكون صادقة أو كاذبة، موجودة أو ممكنة أو ممتنعة - الجانب الذاتي من المتلقي.
وإذا كانت الفلسفة تخاطب الجانب العقلي الخالص من المتلقي، فلا بد أن تقترن لغتها بالوضوح البالغ والتحديد الصارم الذي لا يترك مجالاً للاختلاف أو الإبهام أو اللبس، أما الشعر، فلأنه يخاطب الجانب الذاتي من المتلقي لا يتحقق فيه الوضوح أو التحديد على نحو ما يتحققان في المستويات الفلسفية. بل ربما كان الغموض مطلوباً في الشعر، ما دام يؤدى وظيفة داخل سياق القصيدة) (٢٣) .
وباختصار فإن الفكر عالم عقلاني، والشعر عالم خيالي، والفكر يصور أو يعالج الواقع القائم والمتجسد، بينما يستهدف الشعر تحسين الواقع وتزيينه، من خلال عملية خلق لغوى، أو تقديم تجربة لغوية، وهذا ما يفسّر أو يفسّر به موقف أفلاطون في جمهوريته، حينما اصطفى من الشعر ما يؤدي وظيفة تربوية، أو بعبارة أكثر دقة، اصطفى من الشعراء من لا تؤدى أساطيرهم إلى إفساد النشء (٢٤) .
بواعث الانتقال من الشعر إلى النثر:
وهذا ما يفسر أيضاً انتقال الكثير من الشعراء ذوى النزعة الدينية العميقة، والعاطفة العقدية الكامنة، إلى الضفة الأخرى من النهر، مع أول بارقة تلوح وتحاول المساس بالعقيدة ومكوناتها أو بالمجتمع الإسلامي وأعرافه وقيمه، كسرب الظباء حينما يستوفز ويتحفز مع بارقة الخطر التي تلوح في أفق عالمه الساكن الوديع، كي يعود إلى الموقع الآمن بمنأى عن الخطر، ويترقب ويراقب من يتربصون للإيقاع به في شراكهم.