للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما نظرت مرة إلى النساء حولها إلا وجدت من الفرق بينها وبينهن ما يتضاعف من جهتها عالياً عالياً، ويتضاعف منهن نازلاً نازلاً، كأنه ليس في الأمر إلا أنها أخذت من السماء ووضعت بينهن. هي كالفتنة المحتومة تنبعث إلى آخرها فليس منها شيء إلا هو يحسّن شيئا ويشوق إلى شيء، وبعضها يزين بعضها. لقد تراخى الزمن بي وبها! فلو عدت لأحصيت مائة وخمسين قمرا منذ فارقتها، وما أحسب الأرض إلا انصدعت بيننا عن اقيانوس عظيم من الزمن، تملؤه الأيام والليالي فلا يخاض ولا يعبر ولا ينظر فيه أهل ساحل أهل ساحل غيره.

وعلى أن هذا الزمن قد محا في قلبي من بعدها واثبت، فلا تزال تنشقّ لها زفرة من صدري كلما عرضت ذكراها، كأن القلب يسألني بلغته. أين هي؟

والقلب الكريم لا ينسى شيئا أحبه ولا شيئا ألفه، إذ الحياة فيه إنما هي الشعور، والشعور يتصل بالمعدوم اتصاله بالموجود على قياس واحد، فكأن القلب يحمل فيما يحمل من المعجزات بعض السّر الأزلي الذي يحيط بالأبعاد كلها إحاطة واحدة، لأنها كلها كائنة فيه، فليس بينك وبين أبعد ما مر من حياتك إلا خطوة من الفكر. هي للماضي اقصر من التفاتة العين للحاضر.

ليس بجمال إلا ذلك الروح الذي يرفع النفس إلى أفق الحقيقة الجميلة، ثم ينفخ فيها مثل القوة التي يطير بها الطير ويدعها بعد ذلك تترامى بين أفق إلى أفق، فإما انتهى المحب إلى حيث يصير هو في نفسه حقيقة من الحقائق، وإما انكفأ من أعاليه وبه ما بالطيارة الهاوية: دفعت راكبها إلى حيث ترمى به ميتا أو كالمغشي عليه من مس الموت) (٢٧) .

<<  <  ج: ص:  >  >>