للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكم في الانتقال من الحكاية إلى الدعاء من إعجاز فني بارز، يزيد وضوحا لو فرضت استمرار الحكاية، ورأيت كم كانت الصورة تنقص لو قيل: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا.....الخ.

إنها في هذه الصورة حكاية، وفي الصورة القرآنية حياة. وهذا هو الفارق الكبير. إن الحياة في النص لتثب متحركة حاضرة. وسّر الحركة كلّه في حذف لفظة واحدة. وذلك هو الإعجاز.

٢- ثم لنعرض مشهداً من قصة الطوفان: (وهي تجري بهم في موج كالجبال) . وفي هذه اللحظة الرهيبة، تتنبه في نوح عاطفة الأبوة، فإنّ هناك ابنا له لم يؤمن، وإنه ليعلم أنه مغرق مع المغرقين. ولكن ها هو ذا الموج يطغى فيتغلب (الإنسان) في نفس نوح على (النبي) ، ويروح في لهفة وضراعة ينادي ابنه جاهراً: (ونادي نوح ابنه - وكان في معزل - يابنيّ اركب معنا، ولا تكن مع الكافرين) ولكنّ البنوّة العاقة لا تحفل هذه الضراعة اللاهفة، والفتوة العاتية لا ترى الخلاص إلا في فتوتها الخاصة:

(قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) . ثم ها هي ذى الأبوّة الملهوفة ترسل النداء الأخير: (قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) . وفي لحظة تتغير صفحة الموقف، فها هي الموجة العاتية تبتلع كل شيء: (وحال بينهما الموج فكان من المُغرقين) .

إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار، (وهي تجري بهم في موج كالجبال) ونوح الوالد الملهوف يبعث النداء، وابنه الفتى المغرور، يأبى إجابة الدعاء، والموجة القوية العاتية، تحسم الموقف في لحظة سريعة وخاطفة.

وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية - بين الوالد والمولود - كما يقاس بمداه في الطبيعة - حيث يطغى الموج على الذرى والوديان. وإنهما لمتكافئان، في الطبيعة الصامتة، وفي نفس الإنسان) (٣٢) .

حقبة الفكر:

<<  <  ج: ص:  >  >>