للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لمَخلوقاتهِ، فهو تعالى قد أنطَقَ سائرَ الأشياءِ نُطْقاً مُعتاداً أو غيرَ معتادٍ، فأنْطقَ الإِنسانَ والجانَّ وغيرَ ذلك من خلقهِ نُطْقاً مُعتاداً، وأنطقَ السماوات والأرْضَ وما بينَهما نُطْقاً غيرَ معتاد، كما قالَ تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الِإسراء: ٤٤] وقالَ في غير موضِع {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وأنْطَقَ الطيرَ لسُليمانَ، وأنْطَقَ النَّملةَ، وأسمَعَ نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- تسبيحَ الحَصى (١٩)، وفي الآخرة تَنْطِقُ الجنَّةُ والنَّارُ، وتُحَدَّث الأرضُ بأخبارها، وتشهَد الجلودُ على أهلِها حين تُبْلى السَّرائرُ: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصْلت: ٢١] فكلُّ هذا الِإنطاقِ مِن خَلْقِ الله في الأشياء، فنُطْقُها صفاتٌ لها, ولا يقولُ أحَدٌ: إنَّ نُطْق الأشياءِ صفَةٌ لله، إلاَّ حُلوليّ مارقٌ يعتقدُ أنَّ صفةَ الله تَحُلُّ في المَخلوقِ، أو اتّحاديٌّ يَرى اتّحادَ المَخلوق في الخالِق، فَنُطْقُ المَخلوق وصوتُهُ وكلامُهُ هو بعينهِ صفةُ الرَّبّ تعالى، كما قالَ قائلهُم:

وكلُّ كَلامٍ في الوُجودِ كَلامُهُ ... سَواءٌ عَلَيْنا نَثْرُهُ ونِظامُهُ

وهذا غايةُ الكُفْر والإِلحادِ، إذ مقتضاهُ أنَّ ما يَنْطِق به المخلوقُ من الخَيْر والشَّرّ وفُحْش القَوْلِ، بل وحتَّى أصوات البهائم وسائر الحَيواناتِ، كلُّ ذلك صفةٌ للرَّبِّ تعالى وتقدَّسَ وتنزَّةَ عن صفات خلقهِ.

فلو أخلصَت المعتزلةُ النيَّةَ لله وسألوه التَّوفيق لاهتدوا إلى فُحْشِ ما


(١٩) كما ورَد ذلك بإسناد صحيح، خرجته وفصّلت القول فيه في تعليقي على "مناظرة ابن قدامة".

<<  <   >  >>