للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقدَموا عليه، ولكنَّهم حُرِموا ذلك فهُم عن الصِّراط لناكبونَ, فَحَسِبوا أنَّ الصَّوتَ الذي سَمِعَه موسى صَوْتٌ مَخلوقٌ في الشَجرةِ، كنحو صَفير وَرَقِها إذا عصَفَت الرِّيحُ، وما عَقَلوا أنَّ معنى هذا أنَّ الشجرةَ هي القائلةُ لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: ١٤] وهي القائلةُ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: ٣٠] ولا فَرْقَ حينئذٍ بين دَعوى الشَّجرةِ ودَعوى فرعونَ، فكلٌّ ادّعى الرُّبوبيّة، فصدَّق موسى الشجرةَ وكذَّبَ فِرْعون.

والثاني: أنَّ الله تعالى حين أخبرَ عن تكليمهِ لموسى قال: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فَأكَّدَهُ بالمَصْدَر {تَكْلِيماً} وقد قالَ جماعةٌ من أهل التَّحقِيقِ في العربيةِ: "إنَّ التوكيدَ بالمصْدَر ينفي المَجاز".

والثالث: قالَ ابن قُتَيْبَة رحمه الله: "خَرَجوا بهذا التأويلِ من اللغةِ ومن المَعقولِ, لأنَّ معنى (تكلَّمَ الله) أتى بالكلام مِن عندهِ، و (ترحَّمَ الله) أتى بالرَّحْمة مِن عندِه، كما يقال: (تخشَّعَ فلان) أتى بالخشوع من نفسهِ، و (تشجَّع) أتى بالشَّجاعةِ من نفسهِ، و (تبتَّل) أتى بالتبتّل من نفسهِ، و (تحلَّم) أتى بالحلْم من نفسهِ، ولو كانَ المرادُ: أوجَدَ كلاماً، لمْ يَجُزْ أنْ يُقال: (تكلَّم) وكانَ الواجبُ أن يقالَ: (أكلمَ) كما يقال: (أقبحَ الرجُلُ) أتى بالقَباحة، و (أطابَ) أتى بالطيّب، و (أخسَّ) أتى بالخَساسةِ، وأنْ يقال:

(أكلمَ الله موسى إكلاماً) كما يقال: (أقبرَ الله الرَّجلَ) أي جعَلَ له قَبراً، أو (أرْعى الله الماشيةَ) جعلها ترعى، في أشباه لهذا كثيرةٍ لا تَخفى على أهلِ اللغة" (٢٠).


(٢٠) "الاختلاف في اللفظ" ص: ٢٣٣ - ٢٣٤ - "عقائد السلف" -.

<<  <   >  >>