فانطلق ملك الأمراء كمال الدين بخمسة آلاف فارس كالبرق اللّامع. وما إن بلغ تلك النّواحي حتى نصب المجانيق، ورغم أنّ شرفة «حرّان» كانت تسامت برج النّجوم، وتستنكف عن أن يذكر بين يديها جبل «قاف» كما كانت أمواج خندقها توقع الرّعدة في روح البحر الأخضر، فإن الرّجفة أخذتها من كل جانب بسبب تواتر الهجمات ووقع أحجار المجانيق في بيوت ساكنيها والحجرات. لكنهم- إنصافا لهم- صابروا مدة شهرين.
فلما عجزوا عن تجرّع ما للصبر من كاسات مريرات، وشرع عسكر الكرج والفرنج في إيذاء كرائم حريم المسلمين في المدينة، صرخوا طالبين الأمان لتسكين هذه الفتنة وخوفا على أرواحهم. وأرسلوا الأكابر لخدمة ملك الأمراء.
فاشترطوا عليهم إلا يحملوا خارج القلعة شيئا سوى الأطفال والعيال، وأن ينزلوا منها عارين كالحليب/ ويخرجوا خروج الشّعرة من العجين.
فرفعوا الرّاية السلطانية وصعد الأمراء إلى القلعة وهي خالية، فأثبتوا في الدفاتر ما لا حصر له من الأموال والخزائن، وشحنوها في الصناديق ثم ختموا عليها (١)، وأبلغوا السلطان. فأمر- بعد أن أثنى على ما بذلوه من مساع- بأن يرسلوا الخزائن بكل حيطة إلى الخزانة العامرة، ويتركوا بالقلعة ما لابد من وجوده بها، ويرسلوا ما تبقى مما انتقوه لكي ينقل إلى ملطيّة المحروسة. ثم إنّ عليهم المبادرة بترميم ثغرات القلعة، والتّوجه بعد إنجاز المهامّ إلى الأعتاب السلطانية.
وبعد عودة ملك الأمراء والعسكر من فوق قلعة حرّان وصل رسل ملطيّة فجأة بخبر مفاده أن الملك الكامل عاد إلى حرّان واستولى على القلعة ثانية بحصارها، ووضع المحافظين والجند والنواب في أجولة وحمّلها على الجمال