للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلّفهم، ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم، ويولّيه عليهم، ويحذّر النّاس ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره ولا خلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل النّاس عمّا فى

ــ

دينى، ولا دنيوى «فكان صلى الله عليه وسلم كثير الصمت» (١) كما مر عن أبى هالة. (ويؤلفهم) أى يجعلهم ألفين له مقبلين عليه بكليتهم، ولا متسع فيهم لغيره لما كان يتنزل إليه معهم من مؤاسنتهم، ومباسطتهم، وربما يمازحهم، كل ذلك لسعة أخلاقه وعظيم تفضله وتكرمه، أو يؤلف بعضهم على بعض، حتى لا يبقى بينهم تباغض بوجه، ومن ثمة امتن الله تعالى عليهم بذلك فقال عز قائلا: وَاُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (٢). وأما ما قيل: إن معنى؛ يؤلفهم:

يعطيهم الوفاء فهو لا يوافق اللغة، ولا المراد، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يتألف بالمال من جفاه من أصحابه، ممن لم يتمكن الإسلام فيهم تمكنه فى غيرهم ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إنى لأعطى الرجل، وغيره أحب إلىّ مخافة أن يكبه الله على وجهه فى نار جهنم» (٣)، ويؤيد إرادة المعنى الأول قوله: (ولا ينفرهم) أى لا يوجد فعلا من أفعاله يكون سببا فى تفرقهم، وإعراضهم عنه لما عنده من مزيد الصفح، والعفو، والرأفة عليهم، والحلم عنهم قال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ. (كريم كل قوم) هو أفضل دينا وحسبا ونسبا ويوليه عليهم وهذا من تمام حسن نظره وعظيم تدبره، إذ القوم أطوع لكبيرهم، وأخشى منه مع ما فيه من الكرم المقتضى للرفق بهم ولاعتدال أموره معهم. (ويحذر الناس) أى يخوف الناس من عقاب الله وعذابه ويحثهم على طاعته. (ويحترس منهم) أى مخالطتهم المؤدية إلى سقوط هيبته وجلالته من قلوبهم، ولكن لا مطلقا بل إنما يحترس احتراسا (من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره) أى طلاقة وجهه وبشاشته. (ويسأل الناس) وهو اتصاف الباطن بسائر صفات الكمال فاحتراسه وتحفظه إنما هو عن كثرة مخالطتهم كثرة تؤدى إلى ما مر، لا عن نوع مخالطة على أن تكون مقرونة بغاية البشر وسعة الخلق، فلا مشقة.


(١) رواه أحمد فى مسنده (٥/ ٩١)، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (١٠/ ٢٩٧)، وقال: رواه أحمد والطبرانى فى حديث طويل، ورجال أحمد رجال الصحيح غير شريك وهو ثقه.
(٢) سورة آل عمران آية رقم (١٠٣)
(٣) رواه مسلم فى الإيمان (١٣٢).

<<  <   >  >>