[٤٧ - باب: ما جاء فى تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم]
ــ
(باب ما جاء فى تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم)
اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع وهو التذلل والتخشع، إلا إذا دام تجلى نور الشهود فى قلب، لأنه ح يذيب النفس، ويصفيها عن غش الكبر والعجب، فتلين وتطمئن للحق والخلق لمحو آثارها، وسكون ريحها، ونسيان حقها، والذهول عن النظر إلى قدرها، ولما كان الحظ الأوفى من ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس تواضعا، وحسبك شاهدا على ذلك أن الله سبحانه خيره بين أن يكون نبينا ملكا، أو عبدا نبيا، فاختار أن يكون نبيا عبدا، ومن ثمه لم يأكل متكئا بعد حتى فارق الدنيا، ولم يقل لشىء فعله أنس خادمه أف قط، وما ضرب أحدا من عبيده، وإمائه، وهذا أمر لا يتسع له الطبع البشرى لولا التأييد الإلهى، وفى مسلم:«ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وورد عن عائشة: «أنها سئلت كيف كان إذا خلى فى بيته؟ قالت: ألين الناس سهاما ضاحكا، لم ير قط مادا رجليه بين أصحابه»، وعنها:«ما كان أحدا أحسن خلقا منه ما دعاه أحد من أصحابه إلا قال: لبيك، وكان يركب الحمار ويردف خلفه»، وروى أبو داود وغيره:«أن قيس بن سعد صحبه راكبا حمار أبيه، فقال له: اركب فأبى فقال:
إما أن تركب، وإما أن تنصرف»، وفى رواية:«اركب أمامى فصاحب الدابة أولى بمقدمها» وفى مختصر السيرة للمحب الطبرى: «أنه ركب حمارا ليعود إلى قباء ومعه أبو هريرة فقال: أحملك فقال: ما شئت يا رسول الله فقال: اركب، فوثب ليركب فلم يقدر فاستمسك به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعا، ثم ركب وقال له مثل ذلك، ففعل فوقعا جميعا، ثم ركب، وقال مثل ذلك، فقال: لا والذى بعثك بالحق ما رقيتك ثالثا، «وأنه صلى الله عليه وسلم كان فى سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة فقال رجل: علىّ ذبحها، فقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: علىّ طبخها فقال صلى الله عليه وسلم علىّ جمع الحطب فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نكفيك العمل، فقال: قد علمت أنكم تكفونى، ولكنى كرهت أن أتميز عليكم، وإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» انتهى، وروى ابن عساكر القصة الأخيرة مختصرة وروى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم:«كان فى الطواف فانقطع شسعه فقال بعض أصحابه:
ناولنى أصلحه فقال: هذه أثرة ولا أحب الأثرة هى بفتح أولها الاستبثار أى: الانفراد بالمشى»، وفى الشفاء: «أنه صلى الله عليه وسلم خدم وفد النجاشى، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: