القاضى عياض وغيره: إنما جعل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزة، لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم. وقال القرطبى: الحياء المكتسب: هو الذى جعله الشارع من الإيمان، وهو المختلق دون الغريزى، غير أن من كان فيه غريزة منه، فإنها تعينه على المكتسب، حتى يكاد أن يكون غريزيا. وقد جمع له صلى الله عليه وسلم النوعان، فكان الغريزى أشد حياء من البكر فى خدرها. وروى عنه:«كان من حيائه لا يثبت بصره فى وجه أحد».
واعلم: أن الحياء إنما يتمدح به حيث لم ينته بصاحبه إلى ضعف وجبن وخروج عن الحق، وإلا كان مذموما، وحياؤه صلى الله عليه وسلم كان منزّها عن جميع ذلك. فقد قال ابن عمر:
«ما رأيت لا أشجع ولا أعبد من رسول الله صلى الله عليه وسلم». وقال أنس «كان أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس»(١)، وذكر قصة «فزع أهل المدينة فانطلق ناس قبل الصّوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم وحده، واستبرأ الخبر على فرس لأبى طلحة عرى والسيف فى عنقه، وهو يقول: لن تراعوا»: أى روعا مستقرا أو روعا يضرّكم، وكان ذلك الفرس تطوفا أى: ضيق الخطى، فلما قال: وجدناه بحرا صار واسع الجرى. ببركة ركوبه. وصرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركانة ثلاث مرات متواليات، بشرط إن صرع أسلم، فزاد تعجبه لشدة قوته وقصد النّاس له لذلك، وصارع جمعا غيره منهم ابن الأسود الجهمى فصرعه، مع أنه بلغ من شدّته أنه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد، ولم يتزحزح منه. وفى الحديث «إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم»: أى جعلناه قدّامنا واستقبلنا العدو به وقمنا خلفه ومر فى باب الشعر ركوبه للبغلة فى الحرب، وأن ذلك دليل أى دليل على عظم شجاعته.
(١) رواه الإمام أحمد فى المسند (٣/ ١٤٧)، والبغوى فى شرح السنة (١٣/ ٢٥٨)، وأبو الشيخ فى أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم (٥٩،٦٠)، والبيهقى فى الدلائل (١/ ٣٢٥)، وأبو نعيم فى الحلية (٩/ ١٩)، وذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٦/ ٤٣)، عن أنس قال: كان أحسن الناس وجها، وأنورهم لونا، وكان أجود الناس وكان أشجع الناس. . وذكر القصة.