للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبهذه الطرق يعلم أيضاً أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء، ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك، مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيئون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك (١) .

وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه (٢) .


(١) وهكذا لو قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من الجرحى أن يغسل ثيابه أو بدنه من الدم، وكذلك أيضا لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه غسل محل الحجامة، وما أشبه ذلك، وهذا يدل على أن دم الآدمي ليس بنجس، لكن الجمهور على نجاسته، والاحتياط طيب، لكن الجزم بنجاسته، وأن الإنسان لو صلى في ثوبه وفيه دم فصلاته باطله، هذا يحتاج إلى دليل، فالمسألة ليست هينة، والقاعدة في ذلك: «ما أبين من حي فهو كميتته» ، واليد إذا قطعت من إنسان فهي طاهرة، مع أنها مملوءة دما، فإذا كانت اليد -وهي جرم مملوء بالدم- تكون طاهرة إذا انفصلت عن الإنسان، فالدم من باب أولى، ولا يرد على هذا دم الحيض؛ لأن دم الحيض ليس دم عرق، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين دم العرق، حيث قال للمستحاضة: «إنما ذلك دم عرق» [أخرجه البخاري في الوضوء/باب غسل الدم (٢٢٨) ؛ ومسلم في الحيض/ باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (٣٣٣) ] .
(٢) بعض العلماء يرون أن مس المرأة مطلقا ينقض الوضوء، ولهذا تجد بعض الرجال كما نقل لي يلبس قفازين وهو يطوف؛ لئلا تمس يده جسم امرأة، ولبس القفازين محرم على المحرم، فأرادوا أن يتحرزوا من شيء فوقعوا في شيء محرم.

والصحيح كما قال شيخ الإسلام أن المراد بالملامسة الجماع، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله عنه، وكما أنه مقتضى الفصاحة والبلاغة؛ لأنه لو كان المراد بالملامسة هنا لمس اليد أو ما أشبهه؛ لكان في الآية تكرار في شيء لا حاجة إليه، وحذف لشيء لا بد أن يذكر، فقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} [النساء: ٤٣] إذا جعلنا الملامسة اللمس باليد صار كلا الأمرين يدل على الحدث الأصغر، ولا ذكر للحدث الأكبر، وإذا قلنا الملامسة: الجماع، لم يكن في الآية تكرار، ودلت على فائدة أخرى وهي: الحدث الأكبر.

<<  <   >  >>