ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر؛ بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي، ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهما من السلف، وهو مذهب أهل الظاهر، وفي «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس من البر الصوم في السفر» ، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم وأن يفطر، كما في «الصحيحين» عن أنس أنه قال: كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. وقد قال الله تعالى:{ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ، وفي «المسند» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» ، وفي «الصحيح» : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال:«إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس» . وفي حديث آخر:«خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون» .
وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر: فمذهب مالك والشافعي وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة (١) .
(١) قوله رحمه الله: «مكة وجدة» هذا في عهد المؤلف، وأما الآن فبينهما أقل بكثير من مسافة قصر، لكن الصحيح أنه لا يتحدد بمسافة - أعني: السفر-، وإنما يتحدد بالعرف، فما قال الناس إنه سفر فهو سفر، وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في موضع من كلامه: قد تكون المدة القصيرة سفرا لطول المسافة، وقد تكون المدة الطويلة سفرا مع قصر المسافة [انظر: «الفتاوى» (١٩/٢٤٣؛ ٢٤/٤٨) ] .