أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رخصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها (١)، ونظائر هذا كثير من كلام يدل على معنى ما ذكرنا، ومن منع من أصحابنا تخصيص العلة، فقوله يفضي إلى ترك قول أحمد، في المسائل التي ترك القياس فيها.
وجه من منع تخصيصها أن القول بتخصيصها يفضي إلى تكافئ الأدلة، وإلى أن تكون العلة الواحدة دلالة على الشيء وضده، وذلك أنهم قالوا في المصوغ من الأثمان الربا، لأنه من جنس الموزون، والمصوغ من الصفر لا ربا فيه وهو من جنس الموزون، فيفضي إلى أن تكون العلة الدالة على الحظر في الأثمان هي الدالة على الإباحة في الصفر، فتتكافأ الأدلة وتكون العلة الواحدة علة للشيء وضده، وهذا خِلاف الإجماع، ولأن العلة ضربان عقلية، وشرعية، فلمّا لم يصح في العقلية أن يدخلها التخصيص، كذلك الشرعية.
والوجه في جواز تخصيصها هو أنّ العلل الشرعية هي أمارات للأحكام، وليست موجبة لها، ألا ترى أنها كانت موجودة قبل الشرع غير موجبة للأحكام، فإذا كان كذلك وجاز أن تكون أمارة في حال دون حال، وجب أن يجوز أيضًا كونها أمارة في موضع دون موضع، ويفارق هذا العلل العقلية، لأنها موجبة، ألا ترى أنها قد كانت عللًا عقلية وإن لم يكن هناك ذو عقل، وهذه غير موجبة، ألا ترى أنها صارت عللًا بالشرع، ولو كانت موجبة لم يحتج في كونها بهذه الصفة إلى ورود الشرع، ولأن في هذه العلل لما كانت أمارات للأحكام وجب أن يجوز فيها التخصيص كما يجوز في الأسماء، لما كانت أمارات لما علق بها من الأحكام دخلها التخصيص، وهي صيغة العموم، كذلك ها هنا، يبين صحة هذا أن العموم آكد حالًا، وأعلى مرتبة من العلة، لأن رد العموم يوجب التكفير، ورد العلة المقتضية لا يوجب ذلك، فإذا
(١) تقدم في الاحتجاج بقول الصحابي المسألة الثامنة.