المطلب الخامس: مفهوم النَّكارة وألفاظها عند المحدثين والإمام الدارقطني.
ومفهوم المنكر في مصطلح المحدثين هو المفهوم نفسه في اللغة، إذ يعني كل خبر غير معروف عند الحفاظ الأثبات، مستنكر ومستقبح لديهم، وهذا قد يكون لعدة أسباب في الخبر مثل: كونه خطأ غير صواب، أو أنَّه وهم، أو كذب مختلق كل ذلك منكر عندهم، ولكن لفظة المنكر من الألفاظ التي أطلقت على أنواع عديدة من العلل منها ما رواه الضعيف، وما أخطأ فيه الثقة، وغير ذلك مثل علة الشذوذ، فهل هذا يصح، ويدخل في معناه أم لا؟.
وللجواب عن ذلك سوف نذكر أقوال أهل الحديث ومناقشة أقوالهم، وبيان الراجح منه. نقول بعون الله: أنّه قد فرَّق قوم بين المنكر والشاذ، فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في نزهة النظر: " فإِنْ خُولِفَ أي الراوي بأرْجَحَ منهُ؛ لمزيدِ ضَبْطٍ أَوْ كثرةِ عدَدٍ أَو غيرِ ذلك مِن وُجوهِ التَّرجيحاتِ، فالرَّاجِحُ يقالُ لهُ: المَحْفوظُ. ومُقابِلُهُ - وهو المرجوحُ - يُقالُ لهُ: الشَّاذُّ.
مثالُ ذلك: ما رواهُ التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ، وابنُ ماجَه مِن طريقِ ابنِ عُيَيْنَةَ عن عَمْرو بنِ دينارٍ، عن عَوْسَجة، عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رجُلاً تُوُفِّي في عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ، ولم يَدَعْ وارِثاً إِلاَّ مولىً هو أَعتقَهُ ... الحديثَ.
وتابَعَ ابنَ عُيَيْنَةَ على وَصْلِهِ ابنُ جُريجٍ وغيرُه. وخالفَهُم حمَّادُ بنُ زَيْدٍ، فرواهُ عَنْ عَمْرو ابنِ دينارٍ، عَن عَوْسَجَةَ ولم يَذْكُرِ حديث ابنَ عباسٍ.
قال أبو حاتمٍ: المَحفوظُ حديثُ ابنِ عُيَيْنَةَ. أهـ كلامُه.
حمَّادُ بنُ زيدٍ مِن أَهلِ العدالةِ والضَّبطِ، ومعَ ذلك رجَّحَ أبو حاتمٍ روايةَ مَن هُم أَكثرُ عدداً منهُ. وعُرِفَ مِن هذا التَّقريرِ أَنَّ: الشَّاذَّ: ما رواهُ المقْبولُ مُخالِفاً لِمَنْ هُو أَوْلَى مِنهُ.
وهذا هُو المُعْتَمَدُ في تعريفِ الشاذِّ بحَسَبِ الاصْطِلاحِ.
وَإِنْ وَقَعَتِ المُخالفةُ لهُ معَ الضَّعْفِ؛ فالرَّاجِحُ يُقالُ لهُ: المَعْروفُ، ومُقابِلُهُ يُقالُ لهُ: المُنْكَرُ. مثالُه: ما رواهُ ابنُ أَبي حاتمٍ مِن طريقِ حُبَيِّبِ بنِ حَبيبٍ - وهو أَخو حَمزَةَ بنِ حَبيبٍ الزَّيَّاتِ المُقرئِ - عن أَبي إِسحاقَ، عن العَيْزارِ بنِ حُريثٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن النَّبي صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ،