فَكانَ عِلْمُ عِلَلِ الحديثِ مِنْ أَدَقِّ العُلومِ، وَأعْمَقِهَا ضَرباً، وأَنْفَعِهَا في تَحْقِيقِ المسَائلِ والأحكامِ الشرعيةِ التي عَليهَا مَدَارُ الدِّينِ، وكنتُ منذُ نعومةِ أظفاري أنظُرُ لهؤلاءِ النُّقاد فَأرى جِبَالاً مِنَ العلمِ والفِهْمِ، والحكْمَةِ والنزَاهَةِ في الحكمِ، واستقامةِ المنهجِ، وكنتُ دائماً أسألُ نفسي كيف وصَلَ هؤلاءِ القومُ لمثلِ هَذَا المستوى الرفيعِ من الإتقانِ والدقةِ والأمانةِ في الأحكامِ والأقوالِ التي قَلَّمَا يتصف بها كثيرٌ مِنَ النَّاسِ، كَما قالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ:(إِنَّمَا النَّاسُ كَالإبِلِ الْمِائَةِ لا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً)(١).
وبعد أن مرتْ أعوامٌ عديدة من حُضُورِي لمجالسِ العلمِ وِمُدَارسةِ العلومِ على يد المشايخِ والعلماء المعتَبرينَ، تَبيَّنَ لِي أَنَّ هؤلاءِ القومَ رَضُوا من دُنياهُم بالقليلِ، وبذلوا الْمُهجَ، والجهدَ والوقتَ والمالَ في سبيلِ نصرةِ هذا الدين ورفعتِهِ، فَكانَ الجزاءُ من جنس العمل، فأثَابَهُم اللهُ بذلك سِعةَ الحفظِ، ودِقَّةَ الفهمِ، والتوفيقَ والسدادَ في أقوالهِم وأعمالهِم، فنفع الله بهم العبادَ في مشارقِ الأرضِ ومَغَارِبِهَا، واستنارت بهم العُقولُ، وارتوت مِن فيضِ عُلومِهِم القلوبُ، وأذعنتْ من عُمقِ إخْلاصِهِم الصدور، فسَارَ بِفَضْلِهِم الرُّكبانُ، وتعطرتْ بجميلِ شَذَاهُم الأكوان، واستقامت بعبيرِ فيحهِم الأركان، فكان مَثَلُهُم كالبستانِ الذي ملئ بالزهورِ والورودِ والريحانِ، فلا تفتأُ إلا أنْ تجدَ الفَيْحَ الجميلَ، والثمرَ العليلَ، فلمَّا رأيتُ ذلك تعلَّقَ قلبي بهؤلاءِ القومِ، وبما أفاضُوا بهِ من العلومِ ولاسيما علمُ عللَ الحديثِ، وكان كتابُ العللِ للدارقطنيِّ من أكبرِ المصنفاتِ في علمِ نقدِ الأخبار والآثار، وقد وضع فيه الإمامُ الدارقطنيُّ خُلاصَةَ عِلْمِهِ، وأبان العللَ بأسلوبٍ يُجَلِّي العلةَ ويُبرِزُهَا، ويمتازُ كذلكَ عن بقيةِ الكُتبِ المطبوعةِ في هذا الفنِ، ويزيدُ عليها سعةً وشمولاً واستيعاباً وتنظيماً، وقد ذكرَه أجلةُ العلماءِ الكبارِ بأجملِ الثناءِ، ثم ما كان من مكانةِ الإمامِ الدارقطنيِّ في نقدِ الحديثِ، فهُو من كبارِ أئمةِ الحديثِ والنَّقدِ وكان مما دفعني كذلكَ للبحثِ في منهجِ الإمامِ الدارقطنيِّ في كتابهِ العلل، قلةُ الأبحاثِ العلميةِ فيه، والدراساتُ التحليليةُ التي اهتمت بمناهجِ أئمَّةِ النَّقدِ في مُصَنَّفَاتِهِم
(١) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانةِ، برقم (٦٠١٧).