وجه الخيرية في قوله صلى الله عليه وسلم "خيرا من أن يأكل من عمل يده" ما في عمل اليد من إيصال النفع إلى الكاسب وإلى غيره، والسلامة من البطالة المؤدية إلى الفضول، وكسر النفس به، والتعفف عما في أيدي الناس. والبعد عن ذل السؤال. وقد روى ابن المنذر "ما أكل رجل طعاما قط أحل من عمل يديه" وروى النسائي "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" ويؤخذ من مجموع الروايات أن الخيرية من ناحية الحل والطيب واللذة- وعدم شعور البعض بالفرق في الطعم بين لقمة الكسب ولقمة السحت إنما هو من ضعف الإدراك وقلة الذوق وانعدام الإحساس، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا لمرهفي الشعور بنبي الله داود عليه السلام، واختاره من بين الأنبياء مع أن آدم كان حراثا، ونوحا كان نجارا، وإدريس كان خياطا، وموسى كان راعيا إلخ، اختاره لأن اقتصاره في أكله على ما يعمل بيده لم يكن لاحتياجه لأنه كان خليفة الله في أرضه. ومع ذلك اختار الأكل من الطريق الأفضل وهو عمل يده، وفي عمل داود عظمة أخرى، وهي أنه كان يعمل الدروع من الحديد ويبيعها ويأكل من ثمنها، وقيل: إنه كان يعمل القفاف أو كان يعمل زرادا "حدادا" أو ضافر خوص مما يحتقره الناس في زماننا ويستكثرون على أنفسهم أن يأكلوا منه، ويفضلون الأكل من السحت وبسيف الحياء، ومن هذا الوادي قوله صلى الله عليه وسلم "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه".
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
١ - أن الاكتساب لا ينافي التوكل.
٢ - أن ذكر الشيء بدليله أوقع في نفس السامع.
٣ - تقديم ما يباشره المرء بنفسه على ما يباشره بغيره.