أما عمر المختار. . . . فقد كان في هذه الأثناء يتنقل مع بقية المجاهدين في صحراء ليبيا الحارقة ينصب فيها الكمائن للجنود الإيطاليين، ليحول ليبيا إلى كتلة من نار تحرق معسكرات إيطاليا الفاشية، موزعًا وقته بين الجهاد وقيام الليل، فكان المختار يختم القرآن مرةً كل أسبوع في نفس أيام القتال، وينام ساعتين أو ثلاث ساعاتٍ على الأكثر، حتى جاء ذلك اليوم الذي باغته فيه كمين إيطالي، ليصاب فيه فرسه، فيسقط عمر المختار على رمال الصحراء، عندها أخذ هذا الشيخ الكبير يزحف على بطنه فوق رمال الصحراء الملتهبة، ليعتقله مرتزقة الطليان، ليسرع غرتسياني ليقابل أسد الصحراء المرعب، الذي لطالما سمع عنه الأساطير، وأترككم هذه المرة مع غرتسياني نفسه يصف تلك المقابلة في كتابه "برقة المهدأة":
"وعندما حضر المختار أمام مكتبي كانت يداه مكبلتين بالسلاسل، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال العاديين، له منظره وهيبته، رغم أنه كان يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي أسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح: فسألته قائلًا: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟ (فأجاب الشيخ): من أجل ديني ووطني! فقلت: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟ فأجاب الشيخ: لا شيء إلا طردكم، لأنكم مغتصبون، أما الخرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند اللَّه. فسألته: لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك إن تأمر الثوار البدو بأن يسلموا أسلحتهم؟
يضيف غرتسياني: ما أن سألت المختار هذا السؤال حتى نظر إلي بنظرة أرعبتني وقال لي بثقة غريمة:
"إننا لا نستسلم أبدًا. . . . نموت أو ننتصر"
ويستطرد غرتسياني حديثه "وعندما وقف ليتهيأ للانصراف كان جبينه وضاءً كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف! أنا الجنرال الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء! ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد أمام هذا الرجل! فانهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء".