فَغَسَّلَتْهُ، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ؟ قَالُوا: لَا، فَتَوَضَّأَتْ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي مَسْنَدِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْهُ، كَمَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ.
فَظَاهِرُهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ الَّذِي هُوَ بَعْضُهُ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ مَا زَادَ عَلَى الْوُضُوءِ بَقِيَ الْوُضُوءُ بِحَالِهِ، أَوْ يُقَالُ: الْأَمْرُ بِالْغُسْلِ أَمْرٌ بِالْوُضُوءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِذَا تُرِكَ دَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ لَمْ يَجِبْ أَنْ نَتْرُكَ دَلَالَةَ فَحَوَاهُ، وَقَوْلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَلُّ مَا فِيهِ الْوُضُوءُ، وَيَكْفِي فِيهِ الْوُضُوءُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ؛ وَلِأَنَّهُ وُضُوءٌ مَشْرُوعٌ لِسَبَبٍ مَاضٍ، فَكَانَ وَاجِبًا كَالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْتَزَمَ أَنْ لَا وُضُوءَ مِنَ الْقَهْقَهَةِ، وَلَا مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، أَوْ يَقُولُ: وُضُوءٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَشْرُوعٌ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ؛ وَلِأَنَّهُ وُضُوءٌ عَنْ سَبَبٍ مَاضٍ يُشْرَعُ لَهُ الْغُسْلُ، فَكَانَ وَاجِبًا كَوُضُوءِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ شَرْعَ الْغُسْلِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْمُقْتَضِي لِلطَّهَارَةِ، فَإِذَا نَزَلَ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ الْوُضُوءَ، بِخِلَافِ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَقْبِلَةِ كَغُسْلِ الْإِحْرَامِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا النَّظَافَةُ فَقَطْ، وَهَذَا الْقِيَاسُ مِنْ أَقْوَى الْأَشْبَاهِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَلِأَنَّ بَدَنَ الْمَيِّتِ صَارَ فِي حُكْمِ الْغُرُورِ بِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ كَرَاهَةِ مَسِّهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ لَا لِحَاجَةٍ، وَهُوَ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ، فَجَازَ أَنْ يُوجِبَ الْوُضُوءَ كَمَسِّ الذَّكَرِ، وَلَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّهِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِلنَّوْعِ وَالْجَوَازِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِأُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ؛ وَلِأَنَّ لَمْسَ النَّاقِضِ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ مَمْسُوسٍ وَمَمْسُوسٍ، فَمَسُّ الْفَرْجِ يَنْقُضُ مُطْلَقًا، وَمَسُّ النِّسَاءِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ، وَمَسُّ الْمَيِّتِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّغْسِيلِ لَهُ سَوَاءٌ مَسَّهُ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ أَوْ بَاشَرَهُ، وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ تَعْلِيلِ مَنْ عَلَّلَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْغَاسِلَ لَا يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ مَسِّ ذَكَرِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute