للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إلى أخرى؛ وإما بأن يذعن كل أمرئ لسلطة الحكومة، وهذا لا يمنع إلا نوعًا من أنواع الظلم ولا يمكنه أن يقيم العدل الحقيقي؛ وإما بأن يؤمن الناس بوجود الله وبالحياة الأبدية وبيوم الحساب، وهو إيمان يضع وحده الأساس الثابت للتقيد بالمبادئ الخلقية. لذلك كان للنبوة وظيفة عملية: فقد بعث النبي لإنشاء مجتمع فاضل والمحافظة عليه. وهناك نخبتان لقيادة المجتمع البشري: المعلمون الذين ينورون الذهن، والمرشدون الذين يضبطون الشهوات ويدلون على طريق الفضيلة. وينتمي الأنبياء إلى الفئة الثانية، وبدونهم لا ثبات في العمل الصالح (٥٤).

إن هذه النظرة تنطوي على متضمنات بعيدة الأثر. فهي تعني أنه يجب استعمال العقل استعمالًا تامًا في تفسير القرآن. فإذا بدا لنا أن القرآن يناقض ما هو معروف الآن، فعلينا أن نفسره رمزيًا. إذ أن القرآن يلمح إلى أشياء لم يكن بوسعه شرحها الشرح الوافي، لأن العقول لم تكن مستعدة لذلك. أما الآن، وقد بلغ العقل كماله، فعليه أن يحاول الكشف عن حقيقة تلك التلميحات. فالقرآن يحتوي مثلًا على إشارات خفية إلى العلم الحديث واكتشافاته، كالخطوط الحديدية والكهرباء والمؤسسات السياسية الحديثة (٥٥). لكن لم يكن من الممكن قبل الآن فهم هذه الأشياء. ثم إنه لما كان العقل البشري قادرًا على تفسير مثل هذه الأمور، فباستطاعة أي كان أن يفسرها، شرط أن يكون عالمًا باللسان العربي، وذا عقل سليم، وعارفًا بسيرة السلف الصالح الذين كانوا حراس دعوة النبي الأمناء (٥٦). إن باب الاجتهاد لم يغلق، وإنه لمن حق الناس، لا بل من واجبهم، أن يطبقوا مبادئ القرآن مجددًا على قضايا زمانهم. وإذا امتنعوا عن القيام بهذا، وقعوا في الجمود والتقليد اللذين لا يقلان عداوة للإسلام عن الدهرية. فمحاكاة أقوال الآخرين وأفعالهم تفسد الدين والعقل معًا. وإذا قلد المسلمون الأوروبيين فلن يصيروا مثلهم، إذ أن أقوال الأوروبيين وأفعالهم لا معنى لها إلا من حيث هي صادرة

<<  <   >  >>