التقينا من وقت لآخر، أثناء سردنا لحياة الأفغاني، بمحمد عبده (١)، تلميذه ومعاونه المقتفي أثره عن كثب. لكن محمد عبده لم يبق طيلة حياته تلميذًا للأفغاني، كما لم تكن سنوات التعاون بينهما أخصب سني حياته. فقد كتب له أن يكون مفكرًا نظاميًا أكثر من معلمه، وأن يحدث في الفكر الإسلامي تأثيرًا أبقى من تأثيره وأبعد مدى. ولقد رفض تعاليمه، فيما بعد، كثير من أولئك الذين كانت موجهة إليهم، لكنها استمرت تفعل في أعماق النفوس، حتى غدت الأساس الكامن وراء الأفكار الدينية لدى المسلم العادي المثقف.
كان أصله مختلفًا جدًا عن أصل الأفغاني. ففيما جاء الأفغاني من مكان بعيد يصعب تعيينه بتأكيد، وصرف عمره متنقلًا كالشهاب من بلد إلى آخر، كان محمد عبده من عائلة عادية متأصلة الجذور في بلده، حيث أنجز معظم أعماله. ولد عام ١٨٤٩ في قرية على ضفاف الدلتا المصرية، من عائلة تنتمي إلى تلك الطبقة الخلاقة في مصر الحديثة، طبقة العائلات ذات المكانة المحلية التي تتصف بالعلم والتقوى. ويقال إن أباه كان من أصل تركي بعيد، وأمه من عائلة عربية تنتسب إلى أبطال الإسلام الأوائل. وكانت العائلتان قد استقرتا منذ زمن طويل في قرية بالقرب من طنطا، إلا أنهما اضطرتا، في أواخر عهد محمد علي، إلى مغادرتها، بسبب تعنت جباته القساة، وإلى العيش في حال من البؤس في أمكنة أخرى.