للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقد ولد محمد عبده في أثناء تلك الفترة من النزوح القسري. ومع أن عائلته عادت فيما بعد إلى قريتها، واستردت بعض مكانتها، فقد احتفظ هو، طيلة عمره، بذكريات ما كانت تعني، بالحقيقة، للشعب المصري انتصارات محمد علي وأمجاده الدنيوية.

عندما بلغ حوالي الثالثة عشر من عمره، دخل الجامع الأحمدي في طنطا، الذي كان يومذاك أعظم مركز للثقافة الدينية في مصر بعد الأزهر. لكنه نفر من طريقة التدريس المتبعة هناك والقائمة على استظهار الشروح على النصوص القديمة. فهرب، بعد مدة، مصممًا على الإقلاع عن الدراسة. إلا أنه عاد فاستأنفها مستجيبًا لنصح خاله الشيخ درويش، الذي كان له الأثر الأقوى في حياته قبل اتصاله بالأفغاني. فهو الذي علمه حقيقة الإيمان الكامنة وراء العبارات الجامدة في كتب النحو والعقيدة. وقد باح عبده، بعد سنوات عديدة، وفي مقطع من سيرة حياته، ببعض ما كان يدين به إلى خاله وبما كان يكنه لذكراه من عاطفة، فقال:

«ولم أجد إمامًا يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذاك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد ... وهو مفتاح سعادتي، إن كانت لي سعادة في هذه الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب من غريزتي وكشف لي ما كان خفي عني مما أودع في فطرتي» (٢).

عاد محمد عبده إلى طنطا، وبعد إتمام دروسه فيها، ذهب إلى الأزهر في القاهرة، حيث مكث من ١٨٦٩ حتى ١٨٧٧. وقد استهواه، هناك بنوع خاص، شيخ يدرس علم المنطق والفلسفة، لكن اللاهوت الصوفي كان أشد استهواءً له، فغدا التصوف، لمدة طويلة، درسه المفضل، كما كان موضوع أول كتاب نشر له. وعاش لفترة عيشة تقشف مفرط، قاطعًا العلائق مع الناس. إلا أن ما أنقذه من هذا الخطر تدخل الشيخ درويش مرة أخرى في حياته، ثم صلته الأولى بالأفغاني الذي كان يزور إذ ذاك القاهرة

<<  <   >  >>