كان عام ١٩٣٩ خاتمة عهد أنطوي بانطوائه نهج معين من التفكير، كان في أبرز مظاهره نهجًا «قوميًا» -عربيًا أو مصريًا أو تركيًا أو فارسيًا أو كرديًا أو يهوديًا أو أرمنيًا- يقول بوجود رابطة بين مجموعة معينة من البشر، وبأن هذه الرابطة هي من القوة والأهمية بحيث تفرض على هذه المجموعة تكوين مجتمع سياسي تتمتع فيه الحكومة بسلطة خلقية بمقدار ما تعبر عن إرادة هذا المجتمع وتخدم مصالحه. وقد توجد أنواع مختلفة من المجتمعات. ففي الشرق الأوسط، في المرحلة التي تناولها هذا الكتاب، كان هنالك ثلاثة أنواع من القوميات. وهي أنواع متداخلة، وإن انبثق كل منها عن مبدأ يختلف عن الآخر. أولها، في التسلسل الزمني، القومية الدينية القائلة بأن على جميع أتباع الدين الواحد أن يكونوا جماعة سياسية واحدة. كانت هذه الفكرة، بمعنى من المعاني، الفكرة السياسية الأساسية التي هيمنت على هذه المنطقة منذ أن اعتنقت الإمبراطورية الرومانية الدين المسيحي وغدا المعتقد الديني، شخصيًا كان أم موروثًا، الميزة التي بها يعرف الإنسان. لكن هذه الفكرة كانت، بمعنى آخر، فكرة جديدة، وشكلًا من أشكال القومية الحديثة. فالأمة الإسلامية، كما تصورها المفكرون من دعاة الجامعة الإسلامية، أو الشعب اليهودي كما تصوره الصهيونيين، لم يكن يوحد كلًا منهما الإيمان المشترك بعقيدة دينية، أو الإرادة في العيش وفقًا لشريعة منزلة، بل التراث المشترك القائم لا على العقيدة أو الحكمة الدينية فحسب، بل على الثقافة والعادات