للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

شيئين يتصل أحدهما بالآخر، هي الجسد والروح اللذان لا انفصال بين وظائفهما. فكيف يمكن، إذن، فصل السلطات التي تهيمن عليها؟ على هذا يجيب فرح أنطون بعرض النظرية الديمقراطية بكاملها. فالحاكم لا يحكم وفقًا لإرادته الخاصة أو معتقداته الشخصية، بل على ضوء القوانين التي تضعها جمعية ممثلي الشعب. والشعب يجب أن يكون سيدًا، وإلا ساد الاستبداد أو الفوضى. ولممثلي الشعب حكمة أوسع من حكمة أي حاكم منفرد، وذكاؤهم المشترك أدق من ذكاء أي واحد منهم بمفرده (٣٤).

لذلك يجب أن يكون مجلس النواب أعلى من السلطات الدينية وأعلى من الحاكم نفسه. هذا ما كان فرح أنطون يعنيه حقًا بفصل السلطات الروحية عن السلطات الزمنية. فهو يرى الخطر في تدخل رؤساء الدين في الشؤون الدنيوية؛ إذ عندما تكون الحكومة علمانية، فضلًا عن تمتعها بسلطان فائق، وتضع حدودًا معينة للسلطة الدينية، لا يبقى هنالك من مجال للبلبلة أو الاختلاط، ولا يتعدى الحكومة أو الدين أحدهما على حدود الآخر. لكن فرح أنطون لم يتنبه، كما يبدو للخطر المعاكس. فهو يتساءل: ما هو الداعي للظن بأن الحكومة قد تتدخل في الشؤون الدينية؟ ثم يجيب: إذا لم يكن للسلطات الدينية صلاحيات سياسية، فلن تستجلب التدخل في شؤونها. وعلى كل، فقضيتها قد دخلت طور النزع الأخير. إذ إن باستطاعة النخبة الاستغناء عن معونتها، حتى في الشؤون الدينية. أما ما يهم الجماهير فهو شؤون هذا العالم: إن الاشتراكية إنما هي «دين الإنسانية»، وهي آخذة في الحلول محل الأديان المنزلة (٣٥).

إننا نسمع، من وقت إلى وقت، من خلال صفحات فرح أنطون، نغمة هي أكثر من مجرد صدى لمعلميه الأوروبيين. إنها التعبير عن وعي سياسي إيجابي عند المسيحيين العرب. لقد بقوا مدة طويلة مكتفين بأن لا يتدخل أحد في شؤونهم، مكرسين مواهبهم السياسية لمعالجة شؤون بطريركيتاهم المعقدة. لكن فرح أنطون الآن،

<<  <   >  >>