هذا التحدي الصادر عن الإنكشارية وعن البدو، تبدلت طبيعة الحكم في الولاية العثمانية. فبينما بقيت السلطة المركزية محتفظة بسيطرتها على الولايات الأوروبية، نشأت في كل من آسيا وأفريقيا فئات حاكمة شبه مستقلة، كـ «أسياد الوادي» في آسيا الصغرى، الذين كانوا موظفين محليين من أعيان الملاكين، فتوصلوا إلى جعل سلطتهم دائمة ووراثية؛ وكفئات المماليك في القاهرة وبغداد وصيدا، الذين كانوا أصلًا من جنود القوقاز المغامرين، فاشتراهم ودربهم وأعتقهم أولئك الذين سبقوهم إلى تلك الديار؛ وكأفراد تلك العائلات المحلية في دمشق والموصل الذين كانت الحكومة المركزية قد قبلت إدراجهم في عداد حكامها. وقد تمكنت هذه الفئات الحاكمة من إيقاف الإنكشارية عند حدها، وأحيانًا من رد البدو على أعقابهم، كما استطاعت أن تؤمن إدارة فعالة للسكان الحضر، وأن تستوفي الضرائب وتدافع عن الحدود، وأن تجعل ولاياتها تحافظ، وإن على درجات متفاوتة، على ولائها الأخير للسلطان. لكنه لم يتسن لها كل ذلك بدون ثمن. فقد كان عليها، للحفاظ على النظام، أن تنشئ جيوشًا خاصة بها، مما اقتضى زيادة في الضرائب، كما أنها اضطرت لأن تمنح نفوذًا أشد ومجالًا أوسع لتلك القوى المحلية التي كانت قوة السلطان التنظيمية، في أوج الإمبراطورية، قد أقامت توازنًا موقتًا في ما بينها. فأصبح للأعيان والعلماء تأثير أشد على الحكومة المحلية منه على الحكومة المركزية. كما أن العائلات الكبرى في الجبال استطاعت أن تخضع من حولها السهول، أمثال آل معن وشهاب وأبي اللمع وجنبلاط في لبنان، وظاهر العمري في الجليل، وبابان في كردستان.
وقد أثرت كل هذه الحركات الداخلية، ولا شك، في طبيعة الإمبراطورية، إلا أنها لم تؤثر، إلا على المدى الطويل، في وجودها. أما في القرن الثامن عشر، فقد جابهت الإمبراطورية تحديًا لوجودها نفسه من جهات أخرى. فعلى حدود الإمبراطورية الصحراوية،