وكان ابن الصلاح في هذه الدار قد أسمع الطلاب والحاضرين الكتاب العظيم:«السنن الكبرى» للإمام البيهقي رحمه الله تعالى.
ولقد سجل لنا التاريخ وحفظ من التلف والضياع سماعًا لهذا الكتاب على الإمام أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى. ونص هذا السماع جاء في آخر المجلد الثامن من «السنن الكبرى» من الطبعة الهندية، رواه عنه بالسند إليه أبو عمرو بن الصلاح في دار الحديث الأشرفية بدمشق الشام سنة (٦٣٤) هـ في مجالس بلغت في المجلد فقط تسعين مجلسًا، أما مجالس الكتاب كله فبلغت سبعمائة وسبعةً وخمسين مجلسًا، وتحمله عن الحافظ ابن الصلاح وسمعه منه شيوخ العلم والحديث وطلابه في أدق صورة وأضبط سماع لتلك المجالس، التي كانت تساق فيها رِواية ذلك الكتاب الجليل مع العرض والمقابلة له على نسخة المؤلف الإمام البيهقي ونسخة الحافظ ابن عساكر الدمشقي.
وهي صورة رائعة ممتعة تعرفنا ما كان عليه المحدثون الكبار من الضبط والإتقان والعناية البالغة والتجويد العجيب لرِواية الحديث بالسماع والإسناد في مجالسهم وفي أخذ الرُّواة عنهم، حتى في الكتب الكبار كهذا الكتاب.
وتمثل لنا في قدمها من نحو ثمانمائة سنة ما كأنّا نشهده اليوم في الوسائل الضابطة الدقيقة المصورة كالتلفاز مثلًا.
فهي صورة - غير ناطقة ولا صوتية - تسجل تلك المجالس الحديثية، وحال الشيخ المحدث، وحال العلماء الطلاب الحاضرين فيها: سماعًا وتلقيًا، وحضورًا وغيابًا، ويقظة ونومًا، وانتباهًا واشتغالًا، وتحدثًا ونسخًا، وفواتًا