الذي أراه أنا أن اللسان العربي الذي نتعارفه اليوم، ونرجع إلى المعاجم في تحقيق مفرداته، وإلى الصرف في اشتقاق كلماته، وإلى النحو في ضبط حركاته، ما جُمعت شوارده ولا قُعِّدت قواعده إلا اعتماداً على ما جاء في القرآن وعلى ما أُثر عن العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، من أشعار وأقوال يرجع العلماء إليها ويستشهدون بها، فما نطقوا به فهو الصحيح المقبول، وما خالفه فهو اللحن المرذول؛ المدار في ذلك كله على «السَّماع» منهم والموافقة لهم، لا دخل فيه للعقل ولا للمنطق.
فلننظر إلى لسان (١) حِمْيَر ومن كان قبلهم من سكان اليمن، وإلى ما وصل إلينا من بقايا ألسن عاد وثمود والعمالقة، وما جاء في قانون حمورابي: هل هو موافق للسان العرب الذي نزل به القرآن ونُظمت فيه المعلقات؟
الجواب: لا. وهذا شيء اتفقت عليه كلمة علمائنا الأولين وكشوف المُحْدَثين من الأثريين؛ فلقد رُوي عن شيخ الرواة وإمام أهل العربية أبي عمرو بن العلاء أنه قال:«ما عربية حمير بعربيتنا ولا لسانهم بلساننا». وذكروا أنه لما قدم وفد عرب الشمال على سيف بن ذي يزن يهنّئونه باسترجاع اليمن قال لأحدهم: ثِبْ. وكان الملك على ظهر غمدان، فوثب الرجل من سطح القصر فما وصل الأرض إلا وقد تقطع. فعجب الملك وقال: ما له؟ قالوا:
(١) فرّقَ المتقدمون بين «اللسان» و «اللغة»، وإن كانا بمعنى؛ فاللسان عندهم كالعربية والفارسية والهندية، واللغة (وندعوها اليوم اللهجة) كلغة قريش وتميم. وقالوا في جمعها «ألسُن»، وفي جمع اللسان الذي هو العضو «ألسِنة» (وكلاهما صحيح في الحالين) (مجاهد).