للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هو يبحث عن تعبير يذيع به عواطفه وينشرها. كل ما عنده للناس، أفراحه وأتراحه، وحبه وبغضه، وهو أبداً يَصُفّ كلاماً، هو أبداً يكتب؛ يفيق فيكتب، وينام وهو يكتب، ويحسّ أن الأفكار تصطرع أحياناً في رأسه وتتراكض حتى لتكاد تصدع أصداغه، فيستيقظ من أعماق منامه ليشعل المصباح إلى جانب سريره ويكتب (١)، فإذا أفرغ ما في رأسه وحسب أنه سينام وثبت أفكار أخرى تضرب على جوانب رأسه من داخل ليقوم فيفتح لها!

فلا يستمتع بيقظة ولا منام، ولا يعرف لذة التأمل ولا فتنة الأحلام، ولا يعيش ساعة لنفسه بل يعيش عمره كله للناس. ويا ليته يكتب حينما يريد، وأنّى، وهو يكتب حينما تريد المطبعة؟ والمطبعة لا ترحم، المطبعة كجهنّم، كلما قيل لها: هل امتلأت؟ تقول: هل من مزيد؟ الفكرة التي تحتاج إلى يومين لتنضج، توجب عليك المطبعة أن تعبّر عنها اليوم وأن تجيء بها كاملة ناضجة تعجب القراء. فكيف تضع الأم وليدها قبل أن يستكمل مدة حَمْله، ويكون كاملاً مكملاً لا سَقْطاً ولا مشوَّهاً؟

والأفكار لا تأتي إلا على مهل، تنساب انسياباً، وما على الكاتب إلا أن يستلقي ويسترخي ويدوّن ما يعرض له؛ كصائد


(١) إنه لَيَصف هنا نفسه، فهكذا كان جدي رحمه الله؛ إلى جنب فراشه مصباح وقلم وأوراق، فلا يزال كلما خطرت له فكرة أنار المصباح فخطّ على الورق كلمات، أو ربما خَرْبَش الكلمات في الظلمة حتى لا يطير من عينيه النوم، فإذا أصبح الصباح لم يكد ينجح في قراءة ما خربشه في عتمة الليل من كلمات. وهو في كل الأحوال لا يكاد يهنأ بنوم من كثرة ما يشتغل فكره بالأحاديث والمقالات (مجاهد).

<<  <   >  >>