ههنا فُضيل بنُ عياض، قال: وشاهد هو؟ قلت: نعم، قال: فأتينا فضيلًا، فإذا هو في غرفة له قائمٌ يصلي يتلو آية من القرآن، فجعل يردِّدها، فجعل هارونُ يستمع ويبكي، وكان هارون رجلًا رقيقًا، قال: فدققتُ عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجبْ أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟ قلت: رحمك الله، أوما عليك طاعة؟ قال: أو ليسَ قد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ لِلْمُومِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ"؟ فنزل ففتح الباب، ثمّ طلع الغرفة، فأطفأ السراج، ثمّ التجأ إلي زاوية من زوايا الغرفة، قال: فجعلتُ أجول أنا وهارون في البيت بأيدينا، فسبقت كفُّ هارون كفي إليه، فسمعتُه وهو يقول: أوّه من كَفٍّ ما ألينَها إن نجتْ غدًا من عذاب الله تعالي، قال: فعلمتُ أنه سيكلمه بكلام نقي من قلب نقي، قال: خذ لما جئناك له، فقال: يا أمير المؤمنين! لما ولي عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ الخلافةَ دعا سالمَ بنَ عبدِ الله بنِ عمر -رضي الله عنهم-، ومحمّدَ بنَ كعبٍ القرظيَّ، ورجاءَ بنَ حيوةَ الكنديَّ. فقال: ويحكم! إني قد بُليتُ بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ، فعدَّ الخلافة بليةً، وعَدَدْتَها نعمةً أنت وأصحابُك، فقال: سالم بنُ عبد الله: يا أمير المؤمنين! إذا أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فصم [عن] الدنيا، وليكن إفطارُك منها الموت.
وقال له محمّدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ: يا أمير المؤمنين! إذا أردتَ النجاة غدًا من عذاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فليكن كبيرُ المسلمين عندك أبًا، وأوسطُهم عندك أخًا، وأصغرُهم عندك ولدًا، فأكرِمْ أباك، ووقّرْ أخاك، وتحنّنْ على ولدِك.