كان طرفة بن العبد وخاله المتلمّس وفدا على عمرو بن هند، فنزلا منه خاصة ونادماه، ثم أنهما هجواه بعد ذلك، فكتب لهما كتابين إلى البحرين وقال لهما: إني قد كتبت لكما بصلة، فأشخصا لتقبضاها. فخرجا من عنده، والكتابان في أيديهما، فمرّا بشيخ جالس على ظهر الطريق منكشفا يقضي حاجته، وهو مع ذلك يأكل ويتفلى، فقال أحدهما لصاحبه: هل رأيت أعجب من هذا الشيخ؟ فسمع الشيخ مقالته فقال:
ما ترى من عجبي؟ أخرج خبيثا، وأدخل طيبا، وأقتل عدوّا، وانّ أعجب منّي لمن يحمل حتفه بيده وهو لا يدري. فأوجس المتلمس في نفسه خيفة وارتاب بكتابه.
ولقيه غلام من الحيرة فقال: أتقرأ يا غلام؟ قال: نعم. ففض خاتم كتابه ودفعه الى الغلام فقرأه عليه، فإذا فيه: اذا أتاك المتلمّس فاقطع يديه ورجليه واصلبه حيّا.
فأقبل على طرفة فقال: تعلم والله، لقد كتب فيك بمثل هذا. فلم يلتفت الى قول المتلمس، وألقى المتلمس كتابه في نهر الحيرة وقال:
من مبلغ الشّعراء عن أخويهم ... أمّا فيصدقهم بذاك الأنفس
أودى الّذي علق الصّحيفة منهما ... ونجا، حذار حبائه المتلمّس
أطريفة بن العبد إنّك حائن ... أبساحة الملك الهمام تمرّس
ألق الصّحيفة، لا أبالك، إنّه ... يخشى عليك من الحباء النّقرس
ومضى طرفة بكتابه إلى صاحب البحرين فقتله، فقال المتلمس:
عصاني، فما لاقى رشادا وإنّما ... يبين من الأمر الغويّ عواقبه
فأصبح محمولا على ظهر آلة ... يمجّ نجيع الجوف منه ترائبه
وهرب المتلمس فلحق بالشام، وقال يهجو عمرو بن هند (١):
إنّ العراق وأهله كانوا الهوى ... فإذا نبا بي أهله فليبعد
(١) الاغاني ٢٣/ ٥٥٥، باختلاف الرواية واللفظ.