للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأمام أو إلى الوراء، إلا إذا كنا نعرف تمامًا ما الأمام وما الوراء. لابد من غاية أو هدف حتى يتضح ما إذا كانت الحركة تقترب من هذه الغاية أو تبتعد (١). لهذا نجد من السهل الحكم بأنه قد حدث تطور في التقنية، ذلك أن غاية التقنية أمر واضح وهو تحسين وسائل المعيشة، ومن الممكن بمعايير محددة أن نتبين ما إذا كانت وسيلة ما أحسن من غيرها أم لا.

أما في حياة الإنسان الاجتماعية فمن الذي يحدد ما الأحسن وما الأفضل؟ من الذي يحدد ما الأمام وما الوراء؟ إن وظيفة الدين الأولى أن يعطى الإنسان تصورًا واضحًا لما هو الأحسن وما هو الأصلح، وأن يحدد له بدقة الغايات الصحيحة والأهداف القويمة التي ينبغي أن يتجه لها بسعيه وحركته. ولهذا فقد كانت كلمة صائبة تلك التي انتقد بها هرش الحركة التجديدية في اليهودية حين قال:

"إن الدين في نظرهم صحيح مادام لا يتعارض مع التطور، وفي نظرنا التطور صحيح مادام لا يتعارض مع الدين" (٢).

لقد نشأت العصرانية في منتصف القرن الماضي، حين كانت فكرة تطور المجتمع البشري فكرة مسيطرة على الأذهان، وأولع الناس بها أيما ولع، وقدحوا أذهانهم وخيالهم لوضع نظريات عديدة حولها، ولكن "ربما لا يوجد اليوم من بين المشتغلين بالعلوم الاجتماعية من يؤمن بنظرية تطور المجتمع في خط واحد نحو التقدم وفق مراحل محددة" (٣) مع أن فكرة التطور الاجتماعي بهذا المفهوم غير صحيحة، فإن التغير الاجتماعي مسألة واقعة ومشاهدة ما في ذلك شك، ووظيفة الدين أن يوجه هذا التغير وأن يدفع به في مسار صحيح، وأن يصحح كل تغير يتناقض مع مُثُلِه وغاياته. فهل جعلت العصرانية الدين الحاكم على كل تغير، أم أنها تسعى لأن يتكيف الدين ويتلاءم مع كل تغير؟ إن التغير صحيح مادام يسير في إطار الدين وفي الاتجاه الذي يحقق غاياته، ولن يكون الدين صحيحًا إذا استجاب لكل تغير.


(١) انظر: Pirie, "Madsen, Trial & Error & the Idea of Progress".
(٢) انظر: ص ١٠٥ من هذا البحث.
(٣) "نظرية علم الاجتماع" نيقولا تيماشيف، ترجمة مجموعة من الأساتذة ص ٤١٧، دار المعارف بمصر، ط. رابعة.