وَأَبِي اللَّيْثِ، وَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ جَوَابٌ أَلْبَتَّةَ نَصًّا يَنْظُرُ الْمُفْتِي فِيهَا نَظَرَ تَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ وَاجْتِهَادٍ لِيَجِدَ فِيهَا مَا يَقْرُبُ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ جُزَافًا بِجَاهِهِ لِمَنْصِبِهِ وَحُرْمَتِهِ وَلِيَخْشَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَيُرَاقِبَهُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ إلَّا كُلُّ جَاهِلٍ شَقِيٍّ وَمَتَى أَخَذَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ يَكُونُ آخِذًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْكِبَارِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلًا إلَّا وَهُوَ رِوَايَتُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَيْمَانًا غِلَاظًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ إذًا فِي الْفِقْهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى جَوَابٌ وَلَا مَذْهَبٌ إلَّا لَهُ كَيْفَمَا كَانَ وَمَا نُسِبَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِلْمُوَافَقَةِ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ قَوْلِي قَوْلُهُ وَمَذْهَبِي مَذْهَبُهُ وَتَمَامُهُ فِي مُعِينِ الْمُفْتِي مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ.
[فَائِدَةٌ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ الْإِجَابَةُ عَنْ كُلِّ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ]
(فَائِدَةٌ)
لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ الْإِجَابَةُ عَنْ كُلِّ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ غَيْرُهُ فَيَلْزَمُهُ جَوَابُهُ لِأَنَّ الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمَ فَرْضُ كِفَايَةٍ مُبْتَغَى مِنْ كِتَابِ الْكَسْبِ (فَائِدَةٌ)
كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رُبَّمَا لَا يُجِيبُ عَنْ مَسْأَلَةٍ سَنَةً وَقَالَ: " لَأَنْ يُخْطِئَ الرَّجُلُ عَنْ فَهْمٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُصِيبَ بِغَيْرِ فَهْمٍ.
نَوَازِلُ أَبِي اللَّيْثِ وَكَانَ الْمُسْتَفْتِي إذَا أَلَحَّ عَلَى أَبِي نَصْرٍ وَقَالَ: جِئْت مِنْ مَكَان بَعِيدٍ يَقُولُ شِعْرًا
فَلَا نَحْنُ نَادَيْنَاك مِنْ حَيْثُ جِئْتنَا ... وَلَا نَحْنُ عَمَّيْنَا عَلَيْك الْمَذَاهِبَا
مُلْتَقَطٌ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَفْتُونَهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ فَهُوَ مَجْنُونٌ أَدَبُ الْفُتْيَا لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيّ.
وَفِيهِ أَيْضًا فِي بَابِ مَنْ تَرَكَ الْفُتْيَا فِي الطَّلَاقِ أَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ قَالَ قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا لَكَ لَا تَقُولُ فِي الطَّلَاقِ شَيْئًا؟ قَالَ: مَا مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا وَقَدْ سُئِلْت عَنْهُ وَلَكِنِّي كَرِهْت أَنْ أُحِلَّ حَرَامًا أَوْ أُحَرِّمَ حَلَالًا. اهـ.
[فَائِدَةٌ سَبَبُ وَضْعِ التَّارِيخِ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ]
(فَائِدَةٌ)
سَبَبُ وَضْعِ التَّارِيخِ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِصَكٍّ مَكْتُوبٍ إلَى شَعْبَانَ فَقَالَ أَهُوَ شَعْبَانُ الْمَاضِي أَوْ شَعْبَانُ الْقَابِلُ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِوَضْعِ التَّارِيخِ وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى ابْتِدَاءِ التَّارِيخِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ وَجَعَلُوا أَوَّلَ السَّنَةِ الْمُحَرَّمَ وَيُعْتَبَرُ التَّارِيخُ بِاللَّيَالِيِ لِأَنَّ اللَّيْلَ عِنْدَ الْعَرَبِ سَابِقٌ عَلَى النَّهَارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ لَا يُحْسِنُونَ الْكِتَابَةَ وَلَمْ يَعْرِفُوا حِسَابَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ فَتَمَسَّكُوا بِظُهُورِ الْهِلَالِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِاللَّيْلِ فَجَعَلُوهُ ابْتِدَاءَ التَّارِيخِ، وَالْأَحْسَنُ ذِكْرُ الْأَقَلِّ مَاضِيًا كَانَ أَوْ بَاقِيًا مِنْ الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ
[خَاتِمَة الْكتاب]
(وَهَذَا) آخِرُ مَا يَسَّرَهُ الْمَوْلَى الْقَدِيرُ عَلَى عَبْدِهِ الْعَاجِزِ الْحَقِيرِ مِنْ الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا عَلَّامَةُ عَصْرِهِ وَنَتِيجَةُ دَهْرِهِ صَدْرُ الْأَفَاضِلِ، وَالْأَكَابِرِ مَنْ وَرِثَ الْعِلْمَ وَالْمَجْدَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ مَوْلَانَا الْمَرْحُومُ حَامِد أَفَنْدِي بْنُ عَلِيّ أَفَنْدِي الْعِمَادِيُّ سَقَى اللَّهُ تَعَالَى ثَرَاهُ صَوْبَ غَمَامِ الرَّحْمَةِ الْغَادِي وَهِيَ الَّتِي أَفْتَى بِهَا وَجُمِعَتْ فِي حَيَاتِهِ فِي مُدَّةِ قِيَامِهِ بِمَنْصِبِ الْإِفْتَاءِ فِي دِمَشْقَ الشَّامِ ذَاتِ الثَّغْرِ الْبَسَّامِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً مِنْ سَنَةِ ١١٣٧ إلَى سَنَةِ ١١٥٥ وَلَمَّا اُبْتُلِيت بِمُعَانَاتِ أَمَانَةِ الْفَتْوَى الَّتِي هِيَ فِي زَمَانِنَا مِنْ أَعْظَمِ الْبَلْوَى رَأَيْت هَذِهِ الْفَتَاوَى مِنْ أَحْسَنِ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَمِنْ أَنْفَعِ مَا يَجْنَحُ عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ إلَيْهِ لِتَأَخُّرِ جَامِعِهَا وَسَعَةِ اطِّلَاعِ وَاضِعِهَا وَتَحْرِيرِهِ مَا اعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ الثِّقَاتُ وَذِكْرِهِ لِعَامَّةِ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إلَّا أَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَلْتَزِمْ فِيهَا التَّرْتِيبَ الْمُعْتَبَرَ وَلَمْ يُسْقِطْ مِنْهَا مَا تَكَرَّرَ أَوْ اشْتَهَرَ وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْجَوَابَ فِي مَحَلٍّ وَيَذْكُرُ النَّقْلَ الْمُنَاسِبَ لَهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ.
فَلِذَا صَرَفْتُ عَنَانَ الْعِنَايَةِ نَحْوَ تَنْقِيحِهَا وَاخْتِصَارِهَا، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَفُوحُ مِنْ طِيبِ عِرَارِهَا بِتَرْكِ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ