للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الوَجْهُ الثَّاني: أن الله تَعالَى عاقبهم عَلَى هَذَا الفعل ولو كانوا مجبرين علَيْه لكانت عقوبتهم ظلما لَهُم، إذ كَيْفَ يعاقبون عَلَى مَا لَيْسَ باختيارهم.

ففيها رد من وجهين؛ وجه لفظي وَهُوَ إضافة الكسب إِلَى أيديهم، ووجه معنوي وَهُوَ أنَّه يلزم من عقوبتهم عَلَى ذَلِك لو كانوا مجبرين أنْ يكُونَ الله تَعالَى ظالِمًا لهم، والله تَعالَى لَيْسَ بظلام للعبيد وَكَذلِكَ أيضًا يؤخذ مِنْ قوْلِه تَعالَى: {عَمِلُوْا} حيث أضاف العمل إليهم.

الفائِدَةُ السّابِعَةُ: بَيان سَعَةِ رحمة الله وأن رحمته سبقت غضبه؛ لقوْلِه تَعالَى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، ولو أن الغضب كَانَ بقدر الرّحمة لكان الله يذيقنا كل الَّذي عملنا، ولو كَانَ غالبا للرحمة لكان يذيقنا أكثر مما عملنا، فالأمور ثلاثة: إذاقة البعض أو المثل أو الأكثر، والمثل أو الأكثر ممتنع، وَإنَّمَا يذيق الله تَعالَى البعض لأَنَّهُ ثبت فِي الحديث الصّحيح: "أن الله تَعالَى كَتَبَ كتَابًا عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِى" (١)، ولولا هَذَا لكان الله تَعالَى يؤاخذ النَّاس بما عملوا.

الفائدتان الثّامنة والتّاسعة: أن العقوبات قد تَكُون سَبَبًا للرجوع إِلَى الله لقوْلِه تَعالَى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} كما أنَّها قد تكون بالعكس، أي: قد تَكُون سَبَبًا للازدياد فِي العتو والنّفور - والعياذُ باللهِ - يدل عَلَى ذَلِك قوْله تَعالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: ١١]، والجمع بَيْنَ هَذِهِ الآية والآية الَّتِي تفسرها أن العقوبات عَلَى سبيل العُمُوم مفيدة لكن عَلَى سبيل الخصوص قد لا تفيد؛ لأَنَّ الله تَعالَى قَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ} عَلَى أن قوْله تَعالَى: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} يحتمل أن يراد بِهَا فتنة الدِّين بحيث


(١) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، رقم (٧٤٢٢).

<<  <   >  >>