للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

هذه الملاحظة الاجتماعية تدعونا لأن نقرر أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين، ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها، التي تقبل ذل الاستعمار، والتي تمكن له في أرضها.

وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده، إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذل مستعمر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار.

ولا يذهب كابوسه عن الشعب- كما يتصور البعض- بكلمات أدبية أو خطابية، وإنما بتحول نفسي، يصبح معه الفرد شيئا فشيئا قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرا بأن تُحترم كرامتُه، وحينئذ يرتفع عنه طابع "القابلية للاستعمار"، وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله، وتمتص دمه، فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضع حاكميه تلقائيا إلى الوضع الذي يرتضيه (١).

ولا شك في أن يلازمة السياسية الراهنة تعود في تعقدها إلى أننا نجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة السياسية والتي تقتضينا أن ندخل في اعتبارنا دائما صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي، كآلة مسيرة له، وتتأثر به في وقت واحد، وفي هذا دلالة على ما بين تغيير النفس وتغير الوسط الاجتماعي من علاقات متينة، ولقد قال الكاتب الاجتماعي (بورك): " إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفط ببقائها" (٢).

ومن الواضح أن السياسة، التي تجهل قواعد الاجتماع وأسسه لا تستطيع إلا أن تكوّن دولة تقوم على العاطفة في تدبير شؤونها، وتستعين بالكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها، ولن نستطيع فهم هذه الملاحظات الاجتماعية إلا إذا فهمنا الآية الكريمة التي اتخذها العلماء شعارا لهم في تأسيس دعوتهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. وما بقي الاصلاح متمسكا بأهداب


(١) يمكننا التدليل على هذا بذكر حالة بعض البلاد الافريقية الآسيوية التي لم يطأ ترابها الاستعمار ولكن نراها خاضعة لجميع الظروف الاستعمارية، مثل الفقر والجهل، بينما بلاد أخرى، مثل اليابان أو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تحل بأرضها جيوش الاستعمار ولكن لا تتكون فيها ظروف استعمارية رغم ذلك.
(٢) كتاب " الرجل السياسي الأمريكي" أشار إليه بوفربريدج في كتاب،"قيمة السلم".

<<  <   >  >>