كما هو شأن الدورة الإسلامية. وفي كلا الحالتين فإن المنعطف هو منعطف العقل. غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز. وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالطريقة التي شاهدناها في عهد بني أمية. إذ أخذت الروح تفقد نفوذها على الغرائز بالتدريج. كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد.
ومن الطبيعي أن الغرائز لا تتحرر دفعة واحدة. وإنما هي تنطلق بقدر ما تضعف سلطة الروح.
وأثناء مواصلة التاريخ سيره. نرى هذا التطور يستمر في نفسية الفرد.
وفي البنية الأخلاقية للمجتمع الذي يكف عن تعديل سلوك الأفراد. وبقدر ما تتحرر هذه النزعة من قيودها في المجتمع يكف التحرر الأخلاقي الذي يمارسه الفرد في أفعاله الخاصة، شيئا فشيئا.
ولو استطعنا في هذا الحين بوسيلة دقيقة المراقبة لهذه الظروف النفسية بغية تتبع نتائج هذا الاطراد- كما هو الشأن في وسائل المراقبة التي تتوفر في مختبرات علوم الطبيعة- لأمكن أن نلاحظ انخفاضا في مستوى أخلاق المجتمع. أو أننا نلاحظ- وهو ما يؤول إلى النتيجة نفسها- نقصا في الفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية، وأن هذه الفكرة تظل مواصلة لنقصانها منذ أن دخلت الحضارة منعطف العقل.
فأوج أي حضارة- وأعني به ازدهار العلوم والفنون فيها- يلتقي من وجهة نظر "علم العلل (١) " البحت مع بدء مرض اجتماعي معين لمِّا يجتذب انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع بعد. لأن آثاره المحسوسة لا تزال بعيدة. وبهذا نواصل الغريزة المكبوحة الجماح بيد الفكرة الدينية سعيها إلى الانطلاق والتحرر وتستعيد الطبيعة غلبتها على الفرد وعلى المجتمع شيئا فشيئا.
وعندما يبلغ هذا التحرر تمامه، يبدأ الطور الثالث من أطوار الحضارة.