طور الغريزة التي تكشف عن وجهها تماما. وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية التي تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها تماما في مجتمع منحل يكون قد دخل نهائيا في ليل التاريخ وبذلك تتم دورة في الحضارة.
وهكذا نكون في هذا الطور إزاء علم بعثته الدوافع النامية عن الفكرة الدينية، وأشرقت به أنوار الحضارة غير أنه إذا انتهت دورتها فقد جرفته الفوضى واستحال إلى عدم. أو إلى علم إنتفاعي يعيش أصحابه على حساب الجهل المنتشر.
فدورة الحضارة اذن تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة، أو "عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلافى معين" ( Zthos) على حد قول " كيسرلنج " كما أنها تنتهي حينما تفقد الروح نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح.
وقبل بدء دورة من الدورات أو عند بدايتها يكون الانسان في حالة سابقة للحضارة. أما في نهاية الدورة فإن الإنسان يكون قد تفسخ حضاريا وسلبت منه الحضارة تماما. فيدخل في عهد ما بعد الحضارة.
فإذا كان ممكنا المماثلة بين هاتين الحالتين من وجهة نظر سطحية لما فيهما من وجه الشبه الظاهرية. فإنه من الخطأ المماثلة بينهما من وجهة بيولوجية- تاريخية: إذ الانسان الذي تفسخ حضاريا مخالف تماما للانسان السابق على الحضارة أو الإنسان الفطري.
فالأول ليس مجرد إنسان خارج عن الحضارة فحسب- كما هي الحال مع الثاني الذي سميناه فيما سلف "بالإنسان الطبيعي" إذ الانسان المسلوب الحضارة لم يعد قابلا لانجاز "عمل مُحَضر" ( Oeuvre Civilisatrice) إلا إِذا تغير هو نفسه عن جذوره الأساسية.
وعلى العكس من ذلك، فإن الإنسان السابق على الحضارة يظل مستعدا -كما هي الحال مع البدوي المعاصر للنبي- للدخول في دورة الحضارة.