عندما نتصور الثقافة كالشيء الذي يصنع التاريخ، ولا من الوجهة التربوية، عندما نعتبر الثقافة كالشيء الذي يكيف الإنسان الذي يصنع التاريخ، أي عندما نريد فهم وظيفة اجتماعية وتطبيقها في مجتمع معين.
الحرفية في الثقافة:
فاما الحشو الذي نشير إليه فإنه نتج عن عدم محاولتنا تصفية عاداتنا وصياتنا مما يشوبها من عوامل الانحطاط- كما أشرنا سابقا- أن ثقافة نهضتنا لم تنتج سوى حرفيين منبثين في صفوف شعب أمي.
ونحن مدينون بهذا النقص لرجل "القلة" الذي بتر فكرة النهضة فلم ير في مشكلتها إلا حاجاته ومطامعه، دون أن يرى فيها العنصر الرئيسي لما في نفسه من كساد وعليه، فإنه لم ير في الثقافة إلا المظهر التافه، فهي عنده: طريقة ليصبح شخصية بارزة، وإن زاد: فعلم يجلب رزقا.
ونتيجة هذا التحريف لمعنى الثقافة متجسدة في ذات ما نسميه:" المتعالم أو المتعاقل".
والحقيقة أننا قبل خمسين عاما كنا نعرف مرضا واحدا يمكن علاجه، وهو الجهل والأمية، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضا جديدا مستعصيا هو (التعالم). وإن شئت فقل: الحرفية في التعلم، والصعوبة كل الصعوبة في مداواته. وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الثياب البالية، وحامل اللافتات العلمية. فإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول، فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها. لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيره ضميرا فعالا، بل ليجعله آلة للعيش، وسلما يصعد به إلى منصة البرلمان. وهكذا يصبح العلم مسخة وعملة زائفة، غير قابلة للصرف. وان هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق، لأنه جهل حجرته الحروف الأبجدية، وجاهل هذا النوع