للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما أولئك المغمورون من الشعراء فقد بُعثرت مجموعاتهم الشعرية بين ثلاثة مصادر: كتب الثقافة العربية المختلفة، كل منها يستغلها لأغراضه الخاصة وفي دائرته الخاصة، ثم مجموعات المختارات من شعر الشعراء، وهذه -بطبيعة الحال- كانت متأثرة بذوق أصحابها، كما أنها كانت محصورة داخل دائرة الاختيار، وهي دائرة مهما تتسع ضيقة، ثم كتب التراجم التي تذكر بعض أخبار من تترجم لهم وبعض نماذجهم الفنية، وحتى هذه -أو على الأقل أكثرها- لم تكن تعنى إلا بالمشهورين. ولنستمع إلى ابن قتيبة في مقدمة "الشعر والشعراء" يحدثنا عن الأساس الذي أقام عليه كتابه، لنرى صورة من ذلك الاهتمام الذي يقف عند المشهورين فحسب، ولا يكاد يفكر فيمن عداهم: "قال أبو محمد: وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما من خفي اسمه، وقل ذكره، وكسد شعره، وكان لا يعرفه إلا بعض الخواص، فما أقل من ذكرت من هذه الطبقة"١. ومعنى هذا أن رواة الشعر العربي -أو على الأقل أكثرهم- كانوا ينظرون إلى الشعر القديم على أنه وسيلة لأغراض لغوية لا على أنه نتاج عصر متعدد الجوانب.

والأمر في شعر الصعاليك أسوا من هذا. فقد عرفنا أن هؤلاء الصعاليك كانوا يمثلون طائفة خارجة على المجتمع، متمردة على أوضاعه وتقاليده، لا تحرص على قبائلها كما لا تحرص قبائلها عليها، ونتيجة هذا أن القبائل لم تحرص على شعرهم؛ لأنه يمثل ذلك الخروج عليها، وذلك التمرد على أوضاعها وتقاليدها، ولأنه حديث فردي يعني بتصوير شخصيات أصحابه بقدر ما يهمل شخصيات قبائلهم، وما حاجة القبائل إلى ذلك اللون من الشعر الذي لا يهتم بها في شيء، بل على العكس يهتم بتسجيل تمرده عليها والإساءة إليها؟ وماذا يحمل هذه القبائل على الحرص على هذا الشعر بعد أن لم تحرص على أصحابه؟ وقد رأينا إلى جانب


١ ص٢، ٣.

<<  <   >  >>