هذا أن هؤلاء الصعاليك عاشوا حياة متشردة بين أرجاء الصحراء الواسعة الرهيبة، حيث يعيش الحيوان النافر، والوحش الضاري، ونتيجة هذا أن سبل الاتصال بين هؤلاء الصعاليك وبين مجتمعهم لم تكن ميسرة، بل على العكس كانت معقدة أشد التعقيد؛ إذ هي صلة عداوة مستحكمة، لا تجعل أحدهما يطمئن إلى الآخر، وقد قلنا من قبل إن المجتمع فقد اطمئنانه إلى هؤلاء الصعاليك كما فقدوا هم طمأنينتهم فيه. ومعنى هذا أن كثيرا من شعر الشعراء الصعاليك ضاع بين آفاق الصحراء المجهولة، وذهبت أنغامه ما بين حيوانها ووحشها، حيث لا ناطق ولا سميع ولا راوية إلا هؤلاء الصعاليك أنفسهم الذين بعد ما بينهم وبين مجتمعهم، وقد هدد تأبط شرا عاذليه إن لم يتركوا عذله ليتركنهم إلى آفاق الصحراء المجهولة حيث لا أحد -مهما تكن معرفته- بمنبئهم عن موضعه١، وإذن فكيف يصل ما يقوله من شعر في تلك الآفاق المجهولة إلى آذان المجتمع الأدبي؟
ومع ذلك فقد وصلت إلينا مجموعة لا بأس بها -وإن تكن قليلة- من شعر هؤلاء الصعاليك. وقد نتساءل: كيف وصلت إلينا هذه المجموعة برغم كل هذا؟
مصادر هذه المجموعة، عندي، ثلاثة:
فليس من شك في أن هؤلاء الشعراء الصعاليك قد مرت بهم في حياتهم فترات عاشوا فيها من قبائلهم حياة قبلية متوافقة توافقا اجتماعيا، وهي تلك الفترات التي سبقت حياتهم المتصعلكة؛ إذ ليس مما يمكن تصوره أن يبدأ هؤلاء الصعاليك حياتهم المتصعلكة منذ أن ترى أعينهم نور الحياة، وإنما الذي يمكن تصوره أنهم عاشوا فترة من حياتهم -قصرت أو طالت- مع قبائلهم، فليس التصعلك بالظاهرة الوراثية، وإنما هو كما رأينا في الفصول السابقة ظاهرة تعمل فيها عوامل جغرافية واجتماعية واقتصادية. ومن الطبيعي أن يكون بعض هؤلاء الشعراء الصعاليك قد اكتملت ملكاتهم الفنية قبل أن يتصعلكوا،
١ انظر البيتين ٢٣ و٢٤ من قصيدته القافية "ابن الأنباري: شرح المفضليات/ ١٨".