للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قبيلته" لأنه لم تعد له قبيلة، وإنما يصح شعره صورة صادقة كل الصدق من حياته هو، يسجل فيه كل ما يدور فيها، ويصبح ضمير الفرد "أنا" أداة التعبير فيه بدلا من ضمير الجماعة "نحن" الذي هو أداة التعبير في الشعر القبلي، وتصبح المادة الفنية لشعره مشتقة من شخصيته هو لا من شخصية قبيلته. ومعنى هذا أن ظاهرة الفناء الفني لشخصية الشاعر القبلي في شخصية قبيلته التي نلاحظها بوضوح عند أصحاب المذهب القبلي في الشعر الجاهلي قد اختفت من مجموعة الشعر داخل دائرة الصعلكة. وحلت محلها ظاهرة أخرى يصح أن نطلق عليها "ظاهرة الوضوح الفني لشخصية الشاعر الصعلوك".

ولكن شخصية الشاعر الصعلوك شخصية يشاركه فيها أفراد جماعته؛ لأنهم جميعا يؤمنون بمذهب واحد، ويدينون بعصبية مذهبية واحدة. ومن هنا كانت شخصية الشاعر الصعلوك شخصية "جماعية"، ولسنا نقصد بالجماعية فناء الشاعر الصعلوك في جماعته فناء يشبه فناء الشاعر القبلي في قبيلته، وإنما نقصد بها ذلك التشابه في الشخصيات بين أفراد جماعة الصعاليك. ومع ذلك فليس من اليسير أن نتصور جماعة الصعاليك قد تشابهت شخصياتها حتى أصبحت شخصية واحدة، فإن أساس حركة الصعلكة اعتداد بالشخصية الفردية، واعتزاز بمقدرة الفرد على الوقوف في وجه المجتمع. ومن هنا كانت لكل شاعر صعلوك إلى جانب شخصيته الجماعية شخصية فردية خاصة يتفرد بها بين جماعته. ولكنهم -مع اعتدادهم بشخصياتهم الفردية- كانوا حريصين على شخصيتهم الجماعية؛ لأنهم -من غير شك- أقدر جماعة على تحقيق مذهبهم في الحياة منهم أفرادا. ولعل أصدق الأمثلة على هذا عروة وجماعته، فقد كان عروة -مع اعتداده بشخصيته الفردية- يعبر عن جماعته ويتكلم بلسانها، وكذلك جماعة تأبط شرا التي كانت تدعوه "أمهم"١ لقيامه على شئونهم، وتنظيمه زادهم، مما يشعر بقوة روح الجماعة بينهم.


١ تائية الشنفرى في المفضليات شرح ابن الأبناري، البيت ١٩ وشرحه / ١٠٣، وابن دريد: جمهرة اللغة ١/ ٢١، والسيوطي: المزهر ١/ ٣٠٢، وتاج العروس "مادة أمم".

<<  <   >  >>