للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الوقت نفسه حريص على ألا يسيء إليهم، أو أن يكون حديثه عن نفسه طعنا فيهم، فتراه يعتمد على هذا "التحديد التعبيري" فيذكر أنه سبقهم إليها لا لأنهم كسالى، فهم جميعا صعاليك نشطون، ولكن لأنه أسرع منهم:

وقلة قنتها صحبي وما كسلوا ... حتى نميت إليها بعد إشراق١

وهي دقة في التعبير يشبهها قوله في القصيدة نفسها حين أراد أن يتحدث عن قوة نفسه وأنه حريص على رفاقه أكثر من حرصه على رفيقاته:

ولا أقول إذا ما خلة صرمت ... يا ويح نفسي من شوق وإشفاق

لكنما عولي، إن كنت ذا عول ... على بصير يكسب الحمد سباق٢

فهو لا يريد أن يسجل على نفسه ضعفا سواء في موقفه من رفيقته أو في موقفه من رفيقه، فحين أحس أنه قد ضعف في مطلع البيت الثاني استدرك وحدد عبارته تحديدا دقيقا أثبت به حرصه على رفيقه، ونفى ما بدا من ضعف في مطلع عبارته، فالدقة هنا تأتي من هذه المقدرة البارعة على النفي والإثبات في موضع واحد.

والمظهر السابع من مظاهر هذه الواقعية ظهور الخبرة العملية في فنهم. وهو مظهر يجعلنا نشعر بأننا أمام إنسان يعيش في الواقع العملي لا أمام شاعر يعيش في الخيال والأوهام. وقد رأينا أبا خراش في حديثه عن حمر الوحش يذكر تمنع الأتن الحوامل على الذكر، وهي ظاهرة مقررة عند علماء الحيوان. وحين يصف الأعلم الظليم يذكر من بين أوصافه أنه "زمخري السواعد"٣ أي أن عظامه جوف لا مخ فيها، ويذكر شراح شعره أن "النعام جوف


١ المفضليات/ ١٦، ١٧، ولسان العرب مادة "ضحا" ١٩/ ١١٤، ومادة "نعم" ١٦/ ٦٢ وفيها قلتها، وقبل إشراق.
٢ المفضليات/ ١١، ١٣.
٣ شرح أشعار الهذليين ١/ ٦٢، وشرح المفضليات لابن الأنباري / ٢٢٩، لسان العرب مادة "حتت" ٢/ ٣٢٧ ومادة "زمخر" ٥/ ١٤٨، ومادة "بري" ١٨/ ٧٥.

<<  <   >  >>