للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العظام لا مخ فيها"١، ويقول الجاحظ في حديثه عن النعام "ومن أعاجبيها أنها من عظم عظامها وشدة عدوها لا مخ لها"٢، والطريف أن الجاحظ يستشهد على هذا ببيت الأعلم الذي نحن بصدده. وهكذا نرى شعر الصعاليك مصدرا من مصادر دراسة حيوان الصحراء يعتمد عليه الدارسون في تأييد آرائهم. وقد رأينا تأبط شرا حين يصف الحية يذكر أن خروجها يكون "بُعيد غروب الشمس"، وهو تحديد دقيق لوقت خروج الأفاعي من جحورها، تؤيده الخبرة العلمية، وليس غريبا على تأبط شرا أن يذكر ذلك؛ لأنه بحكم طبيعة حياته مضطرا إلى ملاحظة هذه الظواهر، وقد قيل له: "هذه الرجال غلبتها، فكيف لا تنهشك الحيات في سراك؟ فقال: إني لا أسري البردين، يعني أول الليل لأنها تمور خارجة من جحرتها، وآخر الليل تمور مقبلة إليها"٣ وهكذا يكون هذا البيت صدى لتجربته العملية التي تصورها هذه العبارة.

ومن أدل الأمثلة على هذه الخبرة العملية التي تظهر في شعر الصعاليك أنهم لا يكادون يذكرون الضباع إلا في مجال الحديث عن الموت، وقد رأينا ذلك الفزع الذي كان يسيطر على نفوس بعض الشعراء الصعاليك من أن تُلقى أجسادهم بعد مقاتلهم إلى الضباع، والذي ظهرت آثاره في شعر الأعلم وتأبط شرا، كما رأينا حديث تلك الوليمة التي يعدها الشنفرى للضبع من جسده بعد مقتله.

ومن المقرر عند علماء الحيوان أن الضبع "مولعة بنبش القبور لكثرة شهوتها للحوم بني آدم٤"، وهذه الحقيقة العلمية المقررة هي التي عرفها تأبط شرا الجاهلي، وظهرت آثارها في شعره، حين وصف الضبع في دقة رائعة بأنها "تفري الدفائنا"٥. ومن الطريف أن الجاحظ عند حديثه عن الضباع وولعها بنبش القبور و"فرط طلبها للحوم الناس" يستشهد بأبيات


١ شرح أشعار الهذليين ١/ ٦٢ ص١١، ١٢.
٢ الحيوان ٤/ ٣٢٦.
٣ الأغاني ١٨/ ٢١٠.
٤ الدميري: حياة الحيوان ٢/ ٦٧.
٥ الأغاني ١٨/ ٢١٣.

<<  <   >  >>